شعار قسم مدونات

كيف يمكن الحدّ من انتشار الأمراض النفسية؟

blogs اكتئاب

قراءة التّقارير العالميّة وما تتضمّنه من أرقام مفزعة حول انتشار الأمراض النّفسية في العالم اليوم يجعلنا نطلق صيحة فزع، إذ تشير بعض الاستطلاعات أنّها ستصيب نصف سكّان المعمورة مع حلول سنة 2030، ممّا يجعلنا نتساءل حول نجاعة طرق التّعاطي معها، وقاية، وعلاجا.

ما هي الأمراض النّفسية؟

يعرّف المرض النّفسي بأنّه اضطراب نفسي المنشأ ينتج عنه اتّجاهات غير سليمة للفرد تجاه نفسه ومجتمعه، فهو يؤدّي إلى إحداث تغيّر غير طبيعي في سلوكيّات الإنسان ونفسيّته ووظائفه المعرفيّة وتصرّفاته، مع ظهور خلل في قدرة سيطرة الشخص على مشاعره وبروز أعراض نفسيّة وسلوكيّة غريبة تؤثّر سلبا على حياته، دراسته، عمله، وعلاقته بمحيطه.

والاضطرابات النّفسيّة هي عديدة ومتنوّعة وذات أسباب مختلفة تتداخل فيها العوامل البيئية والوراثية والبيوكيميائية بنسب متفاوتة لتصيب الإنسان في أيّ مرحلة من مراحل عمره (القلق، الاكتئاب، الهوس، انفصام الشّخصية والخرف بالنّسبة للكهول، والإعاقة الذّهنية، اضطراب التعلّم المحدّد، اضطرابات التّواصل، قصور الانتباه وفرط الحركة، واضطراب الطّيف التوحّدي بال نّسبة للأطفال).

ما هي أعباء الأمراض النفسية؟
يتوقّع أن تتزايد حالات الإصابة بالاضطرابات النّفسية نتيجة للظّروف المهيّئة لبروزها، في ظلّ الانهيار القيّمي والأزمة الأخلاقية الّتي تعيشها الإنسانية

تعتبر الأمراض النّفسيّة حاليّا المتسبّب الأول في الإعاقة، فهي تمنع المصابين بها من أداء وظائفهم المنوطة لهم بصورة طبيعيّة ،و هي منتشرة بشكل وبائي إذ تصيب ربع سكّان العالم حاليا ومن المنتظر أن تطال نصفه مع حلول سنة2030،و هي مكلّفة جدّا بشريّا واقتصاديّا إذ يتسبّب الاكتئاب وحده في وفاة مليون شخص في السّنة حسب الاتّحاد العالمي للأطبّاء النفسيين وضياع 28 في المائة من سنوات الحياة للمرضى (عبء محدّد) زيادة على الخسائر المادّية والاجتماعية الّتي تنشأ نتيجة للإصابة للمريض نفسه وللمحيطين به(عبء غير محدّد).

ويتوقّع أن تتزايد حالات الإصابة بالاضطرابات النّفسية نتيجة للظّروف المهيّئة لبروزها، في ظلّ الانهيار القيّمي والأزمة الأخلاقية الّتي تعيشها الإنسانية، ووسط التّغيّرات السّريعة الّتي يشهدها العالم نتيجة للتكنولوجيا والعولمة المتوحّشة والصّراعات والحروب والكوارث الطّبيعية. وممّا يزيد الطّين بلّة، تشتّت الجهود في التّعاطي معها بالجدّية الكافية وعدم وجود استراتيجية واضحة وموحّدة للوقاية منها وعلاجها.

كيف السّبيل إلى الحدّ من انتشار الأمراض النفسية؟

لا شكّ أنّ الأمراض النفسية الّتي تصيب النّفس وهي الذّات المعنويّة للفرد الشّاعرة والمتفاعلة لها حواملها العضويّة والبيوكيميائية والّتي من المهمّ أن تؤخذ بالاعتبار دون أن تختزل كلّ الصّورة وكأنّ التّفاعلات النّفسية هي مجرّد عمليّات كيميائية في جسم إنسان يراد له البعض أن يكون مجرّد حثالة كيميائية.

إذ من المفيد أن يقع التّعامل مع الإنسان المصاب بالاضطرابات نفسيّة بوصفه إنسانا كوحدة بديعة متناسقة يراعى فيها الجانبين الحسّي والمعنوي، لا ككتلة مادّية محضة تعالج بطرق مادّية بحتة (العقاقير قد تغيّب أعراض المرض دون أن تقضي على أسبابه، فالمصاب بالانفصام العقلي مثلا، قد تغيب هلوساته ويزول هذيانه وقد يبدو طبيعيا تحت تأثير الدّواء الّذي سلب المريض ردّة فعله دون أن يقضي على صراعه الدّاخلي ومعاناته وقد تتدهور حالته في أيّة لحظة بمجرّد انخفاض نجاعة الدّواء آو تحت تأثير أيّ طارئ).

أمام استفحال الأمراض النّفسية وانتشارها وتعاظم أضرارها، لا بدّ من إيجاد مقاربات جديدة تتعامل مع الإنسان كإنسان ولا بدّ من الاعتراف بفشل المنظومة الحالية الّتي تشهد أزمة قيّمية عميقة وجب التأمل معها قبل فوات الأوان
أمام استفحال الأمراض النّفسية وانتشارها وتعاظم أضرارها، لا بدّ من إيجاد مقاربات جديدة تتعامل مع الإنسان كإنسان ولا بدّ من الاعتراف بفشل المنظومة الحالية الّتي تشهد أزمة قيّمية عميقة وجب التأمل معها قبل فوات الأوان
 

كما وجب التنبيه إلى أنّ تشخيص الأمراض النّفسية وعلاجها يجب أن يكون من قبل الأطبّاء النّفسيين مباشرة أو بتوجيه من الأطبّاء المباشرين، والملاحظ أنّ الأمراض النّفسية لها خصوصيّة تجعل البعض في مجتمعات مختلفة يربطها بالسّحر والجنّ والحسد إلى جانب انتشار وصمة المرض العقلي الّتي تجعل العديدين يخجلون من زيارة الطّبيب النّفسي ويلجؤون إلى الأدعياء المتطبّبين والدجّالين والمشعوذين، ممّ يؤدّي إلى تأخّر التشخيص واستفحال المرض وتعرّضهم لمضاعفاته.
فكم من مريض نفسي هلك وهو يضرب ظنّا بأنّه به مسّ من الجنّ وهو مصاب باكتئاب حادّ او بانفصام عقلي! وبالمقابل كم من مريض نفسي مات ببطء وهو يتعاطى العقاقير الّتي يمدّها بها كلّ مرّة دون ان يعيره الاهتمام الكافي او يحيّن حالته في زيارات المراقبة. والغريب أنّ البعض من المغترّين بعلمهم ينصحون بالقيام بنشاط بدني منتظم وبالمطالعة كأدوات مساعدة على العلاج الى جانب الدّواء في حين يعتبرون أنّ الصّلاة وتلاوة القرءان دجلا وشعوذة.

سبحان الّذي قال في سورة الاسراء "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا" (الأية 82). فمن الغير المعقول أن نأخذ بأسباب وأعراض مرض هو نفسيّ بالأساس دون أدنى اعتبار لمن خلق هذه النّفس وسوّاها وأقسم تعظيما لشأنها وأرسل الرّسالات لتعديلها وضمان سلامتها. وأمام استفحال الأمراض النّفسية وانتشارها وتعاظم أضرارها، لا بدّ من إيجاد مقاربات جديدة تتعامل مع الإنسان كإنسان ولا بدّ من الاعتراف بفشل المنظومة الحالية الّتي تشهد أزمة قيّمية عميقة وجب التأمل معها قبل فوات الأوان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.