شعار قسم مدونات

أولاد حارتنا.. والإرث الممقوت!

blogs أولاد حارتنا

وبعد مرور ثلاثين عاماً على حصول الأديب الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب؛ أجدني أتذكر تلك اللحظات جاءني فيها الخبر؛ حين كنتُ في المرحلة الإعدادية؛ فلم أسعد أو أستبشر؛ لأني كنت قد سمعت حينها من بعض أساتذتي أن نجيب محفوظ لم يكن ليحصل على هذه الجائزة لو لم يكن صاحب رأي مخالف لعقيدتنا وأخلاقنا! ولذا فقد نشأت منذ الصغر وأنا أتجنب الاقتراب من رواياته وروايات آخرين غيره؛ ولم يكن هذا لرغبة في نفسي أو استجابة لفكري، وإنما كان لتوارثاَ ممقوتاً ورثناه ممن حولنا، فأصبح الاقتراب من هذا الكتاب أو تلك الرواية كأنه شيئاَ محرما.. ااه.. والله!

وإنني الآن ومع احترامي الشديد لكل من تتلمذت على يديه، أو ورثت منه هذا الأمر أو ذاك؛ أقول: لا بد لكل إنسان منا أن يُعمل عقله ويَفتح ذهنه ويُطَور فكره، ولا يكتفي برأي هذا الأستاذ أو ذاك؛ بل لا بد وأن يَطَلع بنفسه، ويبحث بفكره، ويُنقح بعقله، كل ما يمر به سواءً كانت معلومات أو آراء أو مواقف، فالله سبحانه وتعالى جعل لكل منا عقلاً وحثنا على التفكر والتعقل والتدبر.

ولا يعني رأيي هذا عدم الاستفادة من خبرات هذا الأستاذ أو ذاك، أو تجاهل تلك النصائح التي كان يُفضي بها إلينا ومحاربتها؛ لا، لا.. لا أقصد هذا إطلاقا، ولكني أريد أن أقول أن استفادتي من خبراته هذه ونصائحه لا تعني أن أُلغي عقلي وأصبح شبيهاَ به في أقواله وأفكاره ومواقفه، بل على العكس؛ يجب على كل أستاذ مخلص أن يقوم بدفع تلامذته ومحبيه إلى إعمال عقولهم، والتدبر في ما حولهم من أراء وأفكار ومواقف، بل وعليه أن يسعد بنبوغ هذا التلميذ أو ذاك وينشرح قلبه بمحاورته له، بل ويجب عليه أن يسعد أكثر عندما يجد تلميذًا له خالف رأيه يوماً ما ثم اتضح بعد ذلك صوابه!، أو تلميذا نبغ في مجال معين سبق فيه أستاذه!

يمر على الحارة زمن طويل يفتقدون فيه للعدل والكرامة والسيادة، وتُنهكهم الفاقة، وتتهددهم النبابيت وتنهال عليهم الصفعات، فيحن الناس لأيام جبل ورفاعة وقاسم

ولذا فإنه؛ وأيا كانت الحقيقة الخاصة بآراء ومعتقدات الكاتب الكبير الحاصل على الجائزة الأرفع في العالم، فإني اكتشفت متأخراً أني قد حرمت نفسي من تذوق أدبي واحساس جمالي وانفعال عاطفي، بابتعادي عن هذه الروايات لهذا الأديب وغيره، فسعيت نحوها بنهم علني أتحصل على بعض ما فاتني، خاصة وأن نفسي وعاطفتي تميل نحو الأدب والتاريخ!

ولذا فقد جذبتني رواية "أولاد حارتنا" للكاتب الكبير، وشدني ما ثار حولها من جدال حول الشخصيات الرئيسية بالرواية؛ من حيث كونها ترمز إلى الله تبارك وتعالى وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أم غير ذلك؟! ولذا فإني أنقل هنا بعض كلمات للمؤلف حول روايته يقول فيها: "إن مشكلة أولاد حارتنا منذ البداية أنى كتبتها رواية، وقرأها البعض كتاباَ، والرواية تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال، ولا بأس بهذا أبدا".

وأنا عندما قرأت تلك الرواية وقفت كثيرًا أمام تلك الشخصيات، فهذا "الجبلاوي" الذي كان رجلًا لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره، لا يكاد ينظر إليه أولاده إلا خلسة من مهابته وعنفوانه!، وقد أنجب أبناءًا عدة ولم يتوقف الراوي إلا أمام أدهم وإدريس! أما "جبل" الذي يعود نسبه إلى أدهم بن الجبلاوي، فقد كانت نشأته فيها من المتاعب والضنك ما فيها، إلا أنه أصبح بعد ذلك فتوة من فتوات الحارة بل كان كبيرهم، ولم يكن كسابقيه من الفتوات الغاصبين المتجبرين بل كان فتوة منصفاً عادلًا!

وبعد جبل بزمن جاء "رفاعة" الذي استخدم من المحبة والرفق نَبوتاً استطاع به أن ينشر العدل والوفاق بين أولاد الحارة! ولأن هناك أُناساَ من أولاد الحارة اختلفوا حول أيهما كان الأفضل للحارة "جبل" أم "رفاعة" فكل منهما كان له أسلوبًا مختلفًا عن الآخر في إعادة الحقوق لأصحابها داخل الحارة؛ فأحدهما استخدم القوة، والآخر استخدم المحبة، ومن أجل ذلك ظهر ذلك الفتوة الذي جمع بين الأسلوبين؛ إنه "قاسم" الذي أعاد الوقف لأولاد الحارة بالقوة والمحبة معا!

الناس حين تخلوا عن الدين ممثلا في
الناس حين تخلوا عن الدين ممثلا في "الجبلاوي" وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في "عرفة" أن يُديروا حياتهم على أرضهم (التي هي حارتنا)، اكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلى أداة شر
 

ويمر على الحارة زمن طويل يفتقدون فيه للعدل والكرامة والسيادة، وتُنهكهم الفاقة، وتتهددهم النبابيت وتنهال عليهم الصفعات، فيحن الناس لأيام جبل ورفاعة وقاسم، التي لم يتبق منها إلا مواويل يتغنون بها، في تلك الأثناء يظهر بالحارة "عرفة" الذي استخدم من السحر طريقة لإعادة الوقف لأصحابه، واقتنع هو ومن معه بأن فعل السحر أقوى من فعل النبابيت، ولكنه بالرغم من ذلك سعى سعيا حثيثا للتخلص من "الجبلاوي"!

وأختم بكلمات للأديب الراحل وهو يتحدث عن روايته هذه وما أثير حولها؛ فيقول: "إنه حتى أولاد حارتنا، التي أساء البعض فهمها، لقد كان المغزى الكبير الذى توجت به أحداثها؛ أن الناس حين تخلوا عن الدين ممثلا في "الجبلاوي" وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في "عرفة" أن يُديروا حياتهم على أرضهم (التي هي حارتنا)، اكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلى أداة شر، وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم، فعادوا من جديد يبحثون عن (الجبلاوى)!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
أحمد كمال أبو المجد، شهادة حول أولاد حارتنا، مقال بجريدة الأهرام، 29 ديسمبر 1994.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.