شعار قسم مدونات

المشهد الجزائري.. ثلاثية الثيران المتصارعة (2)

blogs بوتفليقة

تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال الذي يعالج سيطرة الدولة العميقة ممثلة بكتلة تيزي وزو على جزء هام من الدولة، وخلصنا إلى أنّه أقوى الكيانات تأثيرا في المشهد السياسي، غير أنّ اكتمال الصورة العامة لا يكون إلاّ بتشريح وضعية الخصمين الآخرين، وليكن التفالقة موضوع هذا الجزء. الكتلة الثانية أو مجموعة البوتفليقيين (مجموعة تلمسان): وهي مجموعة براغماتية بامتياز، يمكن أن تتحالف مع الشيطان من أجل تحقيق مصالحها، ما يميّزها أنها على ارتباط وثيق بفرنسا أيضا، ومهما اختلفت مع الكتلة الأولى ستتّفق معها فيما يقرّره العرّاب الفرنسي، أفرادها متضامنون جهويا ومتّحدون سياسيا إلى حدّ التطابق في وجهات النّظر.

يمثّل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وشقيقه ومجموعة وزرائه نواة قيادة المجموعة، أسّسوا منذ وصولهم إلى السلطة إعلامهم الخاصّ وأثرياءهم وإدارتهم وأحزابهم، وتحالفوا مع الكيان الموازي ليتمكّنوا من دواليب السلطة وتحييد خصومهم، وبرع بوتفليقة في إنشاء التحالفات والتحالفات المضادّة حتّى تقاسم القيادة محاصصة مع جماعة تيزي وزو، ولأنّه يتقن سياسة "العصا والجزرة" فقد جعل من قائد الأركان الحالي أحمد قايد صالح عصاه التي يبطش بها تارة ويهشّ بها على زبانية الكيان الموازي تارة أخرى في الشهور السابقة للعهدة الرابعة وأثناءها، لكن يبدو أنّ هذا الأخير قد أسّس إمارته الخاصة وبدأ يتمرّد على البوتفليقيين رفقة ثلّة من ضبّاط الجيش منذ تحييد الفريق توفيق، وقد تجلّى ذلك في السنتين الأخيرتين حيث لم يعد يخفى على المتابع الحصيف ظهور قوّة ثالثة في بيت النظام، والفريق قايد صالح أراده بوتفليقة أداة في يده لكنّه استعمل هو كذلك بوتفليقة ليتمكّن ثمّ يستحوذ مع جماعته على جزء كبير من السلطة.

نجد البوتفليقيين تاريخيا قد اعتمدوا على الكيان الموازي وتحالفوا معه استراتيجيا لضرب خصومهم والتمكين لأنفسهم في كلّ دواليب السلطة

يسيطر البوتفليقيون على أدوات أمنية فعّالة تجعلهم يستحوذون على عدد من الملفات الحساسة ويديرون الصراع في شقّه المخابراتي والأمني بدقّة، فجهاز الشرطة اكتسب مكانة مميزة خاصة بعد استحداث فرقة نخبة خاصة به بالإعلان عن استحداث مجموعة العمليات الخاصة "GOSP" في 2016 التي عوضت الوحدة المخابراتية المسماة قوات التدخل الخاصة "GIS" التي تم الاستغناء عنها في 2014 في إطار ما سمّي آنذاك بإعادة الهيكلة، والتي كانت تابعة للمخابرات القديمة، وأيضا استعادة الضبطية القضائية منها؛ وصار لجهاز الشرطة يد طولى تنافس مخابرات الكيان الموازي من جهة، ومخابرات أمن الجيش الطرف الثالث في الصراع من جهة أخرى.

كما أنّ قوات الحرس الجمهوري تعتبر اختصاصا بوتفليقيا محضا باعتبار قيادتها من نفس منطقة الرئيس ممثلة في الفريق بن علي بن علي المرشح لخلافة قائد الأركان الحالي في حال تفوق الجناح البوتفليقي، إضافة إلى قيادة الدرك الوطني سواء تحت إمرة اللواء مناد نوبة المقال مؤخرا أو خليفته غالي بلقصير، ما يجعل وجود رجال الرئيس ثقيلا داخل جسد المؤسسة العسكرية، عكس ما يحاول بعض المتابعين تصويره من سيطرة لجماعة قائد الأركان الذي -كما نرى- يفتقد إلى السيطرة على قيادات الدرك، والحرس الجمهوري، والقوات الجوية والناحية العسكرية الثانية على الأقل، ولا يقصد بالسيطرة سيطرة القانون بل سيطرة النفوذ والولاء.

تختلف جماعة التفالقة عن الاستئصاليين في إخفاء مواقفها الايديولوجية المتطرفة وتتجنّب المجاهرة بها عكس التيار الاستئصالي الذي يعلن عداءه الشديد لكلّ ما يتعلّق بهوية الشعب ودينه وانتمائه إلى الحضارة العربية الاسلامية، بل إنّنا نجده أحرص من الفرنسيين على التمكين للفرنسية والحطّ من اللغة العربية ومحاربة الاسلام قولا وفعلا، والأرشيف يزخر بتصريحات مستفزّة لهؤلاء لا يستنكفون فيها عن السخرية من القرآن وحفظته والكتاتيب والحجاب والصلاة (انظر تصريحات الوزراء: عبد المالك سلال، عمارة بن يونس، خليدة مسعودي، نورية بن غبريط…).

قد يبدو التصنيف الذي نتحدّث عنه غريبا لكنّ الأمور في أعلى الهرم لا تدار بمثالية كما يظنّ الناس، بل هي أبعد ما تكون عن سيطرة القوانين، إذ تخضع التعيينات في المناصب العليا إلى اعتبارات جهوية وعرقية وايديولوجية معقّدة حتى لو اجتهد أصحابها في إخفائها إلاّ أن الأحداث والقرائن تؤكدها، ويكفيك بحث بسيط في أصول ومسارات كبار المسؤولين لتتأكّد مما قرأت أعلاه.

يتميّز البوتفليقيون عن خصومهم بسيطرتهم الشاملة أيضا على قطاعات حساسة في جسد أيّ نظام سياسي؛ من خلال
يتميّز البوتفليقيون عن خصومهم بسيطرتهم الشاملة أيضا على قطاعات حساسة في جسد أيّ نظام سياسي؛ من خلال "ملكيتهم" المطلقة لقطاع القضاء بداية بالمجلس الدستوري والمجلس الأعلى للقضاء
 

ونجد البوتفليقيين تاريخيا قد اعتمدوا على الكيان الموازي وتحالفوا معه استراتيجيا لضرب خصومهم والتمكين لأنفسهم في كلّ دواليب السلطة، حتى أنّهم يملكون اليوم هيئة من أثرياء الحرب مندمجة مع طائفة من أثرياء الزمن البوتفليقي، وذلك لتحقيق التوازن المطلوب اقتصاديا وماليا أمام أثرياء الكيان الموازي والقضاء على احتكاره للسوق في مجالات عديدة، وقد نجحوا في ذلك كثيرا وأصبح صوتهم مسموعا لاسيما وأنّ كل السبل القانونية والصفقات في خدمتهم.

ويتميّز البوتفليقيون عن خصومهم بسيطرتهم الشاملة أيضا على قطاعات حساسة في جسد أيّ نظام سياسي؛ من خلال "ملكيتهم" المطلقة لقطاع القضاء بداية بالمجلس الدستوري والمجلس الأعلى للقضاء، وصولا إلى المجالس والمحاكم المتخصصة. زيادة على علاقات البوتفليقيين بفرنسا، ولا أدلّ على ذلك من ولاء الرئيس ذاته منذ كان وزيرا للخارجية للفرنسيين وانتهاء بتطبيبه في مستشفيي فال دوغراس وليزانفاليد العسكريين الفرنسيين، يملك البوتفليقيون علاقات قوية مع واشنطن، ويعتبر وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل مدلّل التفالقة أبرز الوجوه ذات الارتباط الوثيق بالأمريكيين، وقد يكون مرشحهم في مواجهة مرشح الكيان الموازي المدعوم فرنسيا.

وقد دأب البوتفليقيون والكيان الموازي على التحالف استراتيجيا والتخالف تكتيكيا، فتراهم يتبارون بالاتهامات وتجييش وسائل الاعلام ضدّ بعضهم بعضا في بعض المنعطفات ثمّ سرعان ما تنتهي القضية وتُنسى كأن لم تكن، إنّها صراعات تمسّ الأطراف ولا تصل إلى المركز عادة، فهل ستعمّق الرئاسيات الصراع أم تكون فرصة للتحالف من جديد لضرب الخصم ذو البزّة العسكرية وتأبيد الخلود في الكرسي ربع قرن؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.