شعار قسم مدونات

في فقه التفاعل الرمزي!

blogs رموز

يعجّ عالمنا برموز متزاحمة، نتحرّك في دروب الحياة بها ومعها، ونقع بأقدار شتّى تحت تأثيرات تُشِعّ بها وإيحاءات تنبثق عنها. وقد راكمت الخبرة البشرية عبر التاريخ المديد خبراتٍ وفيرة بشأن الرموز، فتكرّست تقاليدُ متجذِّرة تتعلّق بالرمزية، حتى تطوّرت أعمالٌ وصناعات مخصّصة لرموزٍ لا تُفارِق الاجتماع الإنساني. فالمجتمعات والأمم إذ تتقاسم الأدوار وتوزِّع المراتب؛ فإنها توظِّف الرموز وتستعمل الرمزيات، وتباشر، بوَعي منها أو بدون وعي، عمليّات الترميز التي تُسبِغها على أشخاص ومؤسّسات وموادّ وظواهر وحالات تتخيّرها أو تخضع لها.

 

الرموز والبدايات

حقّقت الرموز منذ منشأ الاجتماع الإنساني وظيفةَ التعبير عن معانٍ وإيحاءات، وجاء ابتكار الكتابة تطوّراً مُهِمّاً في هذا السياق يقوم على الترميز بالحروف والأعداد والصوَر المُنمّطة. والرموز، حتى تُفهَم وتُحقِّق وظيفتها المرجوّة منها؛ تقتضي ممّن يستقبلها أو يتعامل معها أن يحوز قدراً من المعرفة التي تتيح إدراكَ فحواها، ففكّ التّرميز هو بمثابة استرجاع المعنى أو تحرير الفحوى مما تمّ تحميله على الرمز الذي ينهض في هذا المقام بوظيفة وسيطة. يُباشِر المُلحِّن، مثلاً، وضع المدوّنة الموسيقية بتحويل لحنه المسموع إلى رموز على الورق، ثم يقع تحريرُها من الورق إلى النطاق السمعي مجدّداً على أيدي العازفين، وهذا بأسلوب فكّ الترميز، يتطلّب هذا الإجراء درايةً مخصوصة بالآلة الموسيقية وبالرمز الذي تشتمل عليه المدوّنة، ممّا لا يتأتّى لعموم الجمهور الذي لم يُحِط علماً بالنظام الرمزي الموسيقي الذي يشكِّل السلّم الموسيقي عمودَه الفقري.

 

لكنّ عموم الجمهور قادر في النهاية على الاستماع إلى اللحن قبل الترميز في المدونة وبعد تحريره منها بالعزف؛ وإن عجز معظمُه عن قراءة المدوّنة الموسيقية كما ينبغي. على أنّ هذا الاستماع لا يُحقِّق امتياز التذوّق الموسيقي بالقدر ذاته بين الأفراد أو بالمنحى نفسه بينهم؛ فالتذوّق السمعي والانفعال الوجداني يخضعان لنظام رمزي خاصّ أو عامّ في البيئات والشرائح والأوساط والنطاقات الثقافية والأممية، علاوة على الحالة الظرفية للمتلقِّي.

 

وقد تعجز مقطوعة موسيقية عن استثارة وجدان الجماهير في مجتمعات عريضة، بينما يتسابق الجمهور إلى طلبها بحِرص في بيئات أخرى، وقد تُحرِز الألحان الشعبية ذيوعاً لا يُشَقّ له غُبار في بيئاتها دون أن تلقى التقدير خارجها. كانت نقوش الكهوف والصرخات والرقصات وأعمدة الدخان من رموز العهود البائدة، وقد أتاحت في طيّاتها التعبير عن إحاطات وإفادات وإعلانات وتنبيهات وتحذيرات، وعن معانٍ وإيحاءات، وقد تطلّبت الإحاطةُ بفحواها معرفةً بهذه الرموز الوسيطة. وقد عجزت أجيال متعاقبة عن إدراك فحوى الكتابات المسمارية والهيروغليفية مثلاً، إلى أن تمّ تأويل رموزها وفكّ ترميز نصوصها.

 

قد لا يحمل الرمز تأويلاً واحداً، فقد تتعدّد تأويلاتُه حسب السياق والحالة، خاصّة وفق وُرودِه في نظام رمزي مُعيّن. فالرّمز (X) مثلاً عندما يأتي في النظام الرمزي الرياضي قد يعني الضربَ العددي

إنّ مفهوم "تعلُّم منطق الطيْر"، كما ورد في القرآن الكريم ضمن قصة النبي سليمان عليه السلام؛ يشير في هذا السياق إلى إحاطة بترميز تواصلي ضمن عالم الطيور، وقد تحقّقت للعلماء من بعدُ فتوحاتٌ من بينها فكّ ترميز رقصات النحل مثلاً، بما ساعد على الولوج إلى النظام الرمزي لعالم النحل المُذهِل. وإنّ كثيراً ممّا يراه البشر من عجائب الأقوام وغرائبهم إنّما هو واقع منطقي أو سلوك مفهوم ضمن نظام رمزي مُعيّن وإن ساء تأويله أو لم يقع إدراكُ كُنهِه من خارجه.

 

وقد لا يحمل الرمز تأويلاً واحداً، فقد تتعدّد تأويلاتُه حسب السياق والحالة، خاصّة وفق وُرودِه في نظام رمزي مُعيّن. فالرّمز (X) مثلاً عندما يأتي في النظام الرمزي الرياضي قد يعني الضربَ العددي، أي المُضاعفة الحسابية للعدد بمقدار ما يأتي بعده، أو قد يرمز إلى المجهول "س" في المعادلة الرياضية، لكنّه في نُظُم رمزية أخرى قد يعني التخطئة أو يقضي بالرفض أو يُقصَد به الإلغاء أو يُوحي بالتصفية والاغتيال، وهو قد يُشير في علامات السكك الحديدية إلى تقاطعات السكك والطرُق، وغير ذلك من الخيارات والتأويلات القابلة للتجدّد والتبدّل عبر المراحل بتحميل مزيد من التأويلات عليها.

 

من شأن ذلك أن يستثير الانتباه إلى أنّ الرمز لا ينهض عادة بوظيفته الدلالية بمعزل عن نظام رمزي، وأنّ ما يحمله من معانٍ وإيحاءات قد تتعطّل بالكامل خارج نظام رمزي محدد؛ بل قد تؤول إلى تأثيرات مُعاكسة لمقصدها. وتبدو المُعلّقات الشعرية التي استثارت وجدان العرب عبر العصور؛ رموزاً مبهمة لمن لا يعرف العربية مثلاً، وحتى إن وقع نقلها إلى ألسنة أخرى بالترجمات الأمينة؛ فإنّها ستفقد على الأرجح قدراً من مخزونها الإيحائي الذي يرتبط بالنظام الرمزي العربي. وليس من فراغ أن يجتهد بعض المترجمين الحاذقين في نقل روح النصّ بدل الاقتصار على ترجمة حرفية رتيبة، وهو اجتهاد يدفعهم إلى ملامسة النظام الرمزي للّغات التي ينقلون إليها، أو الإضاءة على النظام الرمزي للّغة العربية ذاتِها لتمكين جمهور لغة ثانية من إدراك أقدار من عُمق النص وملامسة إيحاءاته.

 

ولا عجب، إذن، أن يقع لدى بعضهم في بيئات أوروبية تأويل بعض مظاهر الفخر العربي التقليدي بالفروسية والاعتزاز بالسيوف مثلاً؛ بأنه ميْلٌ طبعي إلى العنف والترويع، لأنّ النظام الرمزي الأوروبي استقرّت فيه، أساساً، قوالبُ نمطية وأحكام مسبقة عبر قرون متلاحقة، ربطت العرب والإسلام بالسيف والنار والعنف والغضب والترويع، بما يحفِّز تأويلَ مشهد الفروسية والسيوف عند بعض الأوروبيين من خارج نظامه الرمزي العربي الأصلي.

 

وتتعاظم المفارقة لدى تأمّل صورة الكفاح العادل والمقاومة المشروعة التي تعمد إليها أمم تسعى لنيْل حريّتها واستقلالها وتقرير مصيرها؛ بأنها بمثابة إرهاب وعدوان وتوحّش؛ عندما تبلغ الصورةُ ذاتُها مجتمعاتٍ لم تَعرف تجربةً كهذه أو لم تُدرك دواعيها المنطقية وعدالة قضيتها ومشروعية الكفاح الذي تنطوي عليه؛ أو لعلها رضخت لرواية دعائية مضادّة وحملات تضليل وتشويه وتحريض تُمارَس بحق شعوب تتطلّع إلى حريّتها وحقوقها.

 

كان واضحاً أيضاً أنّ صعود شعبية زعيم في إقليم ما؛ قد يتلازم مع تكثيف الأحكام السلبية بحقه في إقليم آخر، وهو ما يُحال إلى تعارُض التّأويل الرمزي؛ أو إلى عملية ترميز إيجابي تتلازم معها في بيئة أخرى عملية ترميز سلبي، وهو ما قد يُفهَم، نسبياً، من خلال تبايُن النظم الرمزية بين البيئات والمجتمعات والدوائر الحضارية و/أو افتراق المصالح وتَعارُض المواقف من القضية الواحدة. ومن ذلك أنّ عدداً من زعماء العالم العربي والإسلامي، والعالم الثالث عموماً، خاصّة منهم قادة التحرّر على مدار القرنيْن التاسع عشر والعشرين؛ وَقَعت شيْطنتُهم إلى حدّ كبير في أوساط سياسية وإعلامية أوروبية وغربية، ولهذا صلة بخبرات بشرية متراكمة عبر تاريخ الصراعات وحملات الغزو.

 

تفترق رمزياتُ تغطيةِ الرُّؤوس حسب نمط الغطاء المُختار؛ بين العمامة والقلنسوة والطّربوش والقبّعة وقطع القماش بأنواعها وما يَدخل من لوازم التنصيب السلطوي
تفترق رمزياتُ تغطيةِ الرُّؤوس حسب نمط الغطاء المُختار؛ بين العمامة والقلنسوة والطّربوش والقبّعة وقطع القماش بأنواعها وما يَدخل من لوازم التنصيب السلطوي
 
الرمزيات في تزاحمها

لازَمَت الرمزيةُ التواصلَ البشري والاجتماعَ الإنساني، ومع الرموز المتزاحمة التي يَعُجّ بها عالمُنا؛ تتسلّل المعاني والإيحاءات إلى وَعينا وتتفاعل مع مُدرَكاتنا. وقد نشأت للترميز عبر التاريخ صناعاتٌ، بلغ الأمر بها حدّ نَحتِ التماثيل وتشييدِ الهياكل، ومن حولها تشكّلت مجتمعاتُ السدَنة وتحدّدت تراتبيّاتٌ اجتماعية وتوزّعت الأدوار بموجب ذلك.

 

وتُباشِر المجتمعاتُ استعمالَ الرموز في منطوق القوْل ومكتوب النصّ، وفي المَلبوس والمَركوب، وفيما يتمّ اقتناؤه واستعماله علاوة على أنماط السلوك على ضروبها، وغير ذلك من السُّبُل التواصلية المألوفة. فاختيارات اللِّباس، مثلاً، تحمل رموزاً تفيض بالإيحاءات التي يستشعرها من يرتديها أو يتلقّاها محيطُه بأقدار متفاوتة. وتفترق رمزياتُ تغطيةِ الرُّؤوس حسب نمط الغطاء المُختار؛ بين العمامة والقلنسوة والطّربوش والقبّعة وقطع القماش بأنواعها وما يَدخل من لوازم التنصيب السلطوي والديني والقضائي والتعليمي والوظيفي والاجتماعي.

 

وتميل مجتمعات الحاضر إلى الاحتفاء برموز تأتي على هيئة علامات معينة في مساحة الملابس، بعد أن تمّ تضخيم قيمتها المعنوية بقوّة الإعلام والترويج الإعلاني، ورغم أنها تُقدَّم، عادةً، في صورة "علامات تجارية" وحسب؛ إلاّ أنها تتجاوز النطاق التجاري فتتأهّل لمكانة الرموز الثقافية أو التعبير عن أنماط حياة واتِّجاهات سلوك ومشارب تفكير. ولا مبالغة، أيضاً، في الزعم بأنّ الساعة في المِعصَم فقدت قسطاً وافراً من وظيفتها الأصلية في إدراك المَوْضِع من خطِّ الزمن الذي تنفلت خيْلُه مُسرِعة، فهي في حضور وفرة الساعات في الأجهزة المحمولة والمعلّقة تحقِّق اليوم وظائفَ أُضيفت إليها ثم صارت أصلاً فيها، ومنها التعبيرُ عن صاحبها؛ بشخصيّته ومكانته وثرائه، وليس مُفاجئاً أن يقول أحدهم: قُل لي ما نوع ساعة معصمك، وما لونها وشكلها وخصائصها وعلامتها التجارية؛ أَقُل لك مَن تكون!

 

وتُفهَم الرمزية ضمن سياق خاصّ أو عامّ، لأنّ مفعولها يتأتّى عبر التفاعل مع نظام رمزي ما، فهي تُدرَك من خلال نظام رمزي تنبثق عنه أو تنتمي إليه أو تُلامِس بعضَ مفرداته، لكنّ رمزيةً بعيْنها قد تعبِّر عن نظام رمزي بحياله في وعي أمّتها أو مجتمعها أو نسَقِها الخاصّ بها، وقد تَمنح الشخصيةُ الرمزيةُ قيمةً لغيْرها لدى مُحاكاتها أو تقمّصها أو الاقتراب منها مثلاً. وللثقافات والأديان والدوائر الحضارية، عموماً، أنظمتها الرمزية الخاصة بها، دون أن ينفي ذلك المشتركَ الإنساني الرمزي، فوجود نظام رمزي إنساني جامع لا يتنافى مع افتراق الخصوصيات الثقافية والمناطقية والفئوية وتبايُنها.

 

وتحفل الصنعة الأدبية منذ القدم، بالرموز والرمزيات، فهي تلجأ إلى الرمز تعبيراً عن المعنى وإيحاءً بالفحوى، وهي تغترف مفرداتها من النظام الرمزي الإنساني المشترك، ومن أنظمة رمزية مخصوصة. وتمنح الآدابُ، من هذا الوجه أيضاً، امتيازَ الإبحار في أعماق المجتمعات والثقافات والعصور، وإدراك أحوالها والكشف عن مخبوءاتها، وقد يسري مثل هذا على الفنون بأنواعها، لأنّ العمل الفني لا ينفكّ عن الرموز وقد يجوز النظر إليه بصفته حصيلة ترميز مكثّف.

 

رمزية الإنسان سامية في وعي البشر، وأنّ هذه الرمزية ترسم للإنسان صورةً انطباعية لا تُطابق واقعه بل تجرِّد السِّمات النبيلة والخصائص السامية دون بعض طبائع الإنسان ونزعاته
رمزية الإنسان سامية في وعي البشر، وأنّ هذه الرمزية ترسم للإنسان صورةً انطباعية لا تُطابق واقعه بل تجرِّد السِّمات النبيلة والخصائص السامية دون بعض طبائع الإنسان ونزعاته
 
رمزية الكائنات والعلامات

يكتسب بعض الحيوان رمزيّةً في الإدراك الإنساني عموماً أو في أقاليم بعينها خصوصاً. ورمزيّة الحيوان هذه متعلِّقة أساساً بصفة معيّنة أو صفات مخصوصة من صفات كل نوع منه، به اشتُهِر ومن خلاله عُرِف، وهي صفات انطبعت في وعي البشر بغضّ النظر عن صدقيّتها في الواقع. وقد تكون هذه الصفات تأويلية وليست حقيقية، مثل الفهم الخاطئ لسلوك النعامة في دفن رأسها في الرمال الذي صار علامة على التجاهل الساذج للمخاطر فاتُّخِذت النعامةُ رمزا لذلك، رغم أنّ سلوكها هذا هو لاستراق السمع للذبذبات القادمة من اتجاه معيّن والتي قد تشي بخطر داهم تعجز عن رؤيته بما يحفِّزها على الهرب إن تطلّب الموقف منها ذلك.

 

أمّا رمزيّة الإنسان ذاته في وعي البشر فتتأتّى من الإنسان بكليّته، وبالأحرى من الإنسان في خصائصه العُليا، من العقل والشعور والروح والقيم النبيلة غالباً. وإن استُحضرت بحقِّ البشر رمزيّاتُ عالم الحيوان فهي إمّا أن تنطوي على نزع الصفة الإنسانية عنه في معرض التناول السلبي، أو تأكيد صفة حميدة مخصوصة من أحوال البشر أنفسهم اشتُهر بها حيوان معيّن. ومغزى القول في هذا؛ أنّ رمزية الإنسان سامية في وعي البشر، وأنّ هذه الرمزية ترسم للإنسان صورةً انطباعية لا تُطابق واقعه بل تجرِّد السِّمات النبيلة والخصائص السامية دون بعض طبائع الإنسان ونزعاته وأمارات ضعفه واضطرابه.

 

وتتحقّق الرمزية في المجتمعات باستحقاقٍ أو بدونه، لأنها متعلِّقة بالإدراك المجتمعي أو الجماهيري لمن يبدو "رمزاً"، فهي نتاج حالة تصوّرية أساسا. وقد تنضُج الرمزية عبر تفاعلات غير مُخطّطة، أو قد تأتي نتاجَ تهيئة تتحرّى الترميز، وقد يتلازم المساران معاً أو يتضافران. وبالمِثْل؛ لم يُحرِز الرمزيةَ أشخاصٌ كُثُر في الحاضر الإنسانيّ وعبر التاريخ المديد، لأنهم لم يُعرَفوا كما ينبغي لهم أن يُعرَفوا، أو لم يقع تعريفُ مواقفهم وجهودهم ومساهماتهم كما تستحقّ؛ بل ربّما نالهم الغُبْن وطاردهم الأذى أو وقع تأويلُ ما بدر منهم على نقيض مقصده.

 

ولا تقتصر الرمزية على الأفراد، بل تسري على المؤسسات والمجتمعات والأمم وغير ذلك؛ بل ثمة منحى متزايد نحو توسيم Branding البلدان والمدن في العالم بتكثيف انطباعات إيجابية محدّدة عنها تَمنحها هُوَيّةً انطباعية متميِّزة عمّا سواها. وقد تحظى بالرمزية اختيارات استهلاكية أو مسلكية مُعيّنة، وسلعٌ وخدمات ونحوها.

 

وتتألّق العلامات التجارية في التعبير الظاهر عن منحى الترميز، فالعلامة تتجاوز النطاق التقليدي للمنفعة الأصلية المُتوقّعة من المُنتَج أو الخدمة لتمنحه أو تمنحها أبعاداً معنوية إضافية في إدراك الجمهور. تمنح قواريرُ المياه المعدنية، مثلاً، انطباعاتٍ متفاوتة عنها بما يتجاوز الإدراكَ المجرّدَ للماء، المتماثلِ تقريباً في أصله، ويتمّ توليد هذه الانطباعات وتوكيدها عبر تصميم العبوات والتبايُنات السِّعرية وجهود الإعلان والظهور الإعلامي وغير ذلك. ومن رمزيات المادّة ما تحوزه المعادن النفيسة والأحجار الكريمة من تقدير عالٍ فتُتخذ تعبيراتٍ عن الحظوة ويُلجَأ إليها في التزيُّن وإظهار الثراء والمكانة، وقد تغدو بذاتها رموزاً دالّة على قيم عُليا ومعانٍ متميِّزة؛ ويكفي وصفُ أيّ فكرة أو سلعة أو خدمة أو مرتبة بأنّها "ذهبية" للتعبير عن الرِّفعة والألَق والتميّز، أما وصف الناس بـ"الجواهر" فهو من مراتب المديح المتقدِّمة.  

 

الطابع المتعدي للرمزية
الرمزية قابلة للتمرير بأقدار، فثمة تأثيرات معنوية أو إيحائية مُصاحِبة، قادرة على أن تتعدّى من مصدرها إلى الأفراد والمكوِّنات إيجاباً وسلباً

ثمة رمزية مُوجَبة وأخرى سالِبة، فالإدراك الجماهيري الإيجابي لفرد أو مُكوِّن أو حالة أو ظاهرة أو مادّة أو غير ذلك؛ يجعل الرمزيةَ مُعرّفةً إيجابياً، أو قد تكون رمزيةً سالبة؛ ترى في "الرمز" تعبيراً عن معانٍ وإيحاءات ودلالات منبوذة؛ كأنْ تبدو رمزيّتُه لصيقةً بالشرور والآثام والمخاوف والتهديدات.

 

والرمزية قابلة للتمرير بأقدار، فثمة تأثيرات معنوية أو إيحائية مُصاحِبة، قادرة على أن تتعدّى من مصدرها إلى الأفراد والمكوِّنات إيجاباً وسلباً. فمَن يُطِلّ على الجماهير في لحظات النجاح والانتصار، مثلاً، قد يمنحه الظرفُ رافعةً رمزية نسبية، وأمّا مَن يَظهر ابتداء أو حصراً في حالات الإخفاق فقد يُربَط في وَعي الجمهور بانطباعات سلبية. يجسِّد مُذيع الطقس مثالا نمطياً لهذا المنحى، فهو في حضوره التقليدي لا يبدو شخصية مُحبّبة نظراً لطبيعة الأنباء التي يخرج بها على الجمهور في نشرة الأحوال الجوية، لكنّ من يُطِلّ على الجماهير في المواقف الصّعبة ذاتِها قد يحوز انطباعاتٍ إيجابية أن تمّ تعريفُه في الوَعي الجمعي من خلال وظيفة الدعم المعنوي والرعاية والطمأنة والقيادة المسؤولة والشُّجاعة في أوقات الشدّة؛ على سبيل المثال.

 

رموز التواصل والاندماج

يعتمد التواصل في أصله على رموز، منها الكلمات والحروف والرسوم والأصوات والحركات والإيماءات وغيرها. ويتطلب اندماج الفرد في جماعة بشرية قدراً من التواصل الإيجابي أو التفاهم، بما يشتمل عليه ذلك من أهلية استعمال الرموز الخاصة بالجماعة؛ في مستواها التواصلي البسيط أو في مستوياتها الرمزية المركّبة.

 

وعلاوة على لغة التخاطب وأسلوبها ولكْنَتها والإشارات المُصاحِبة لها؛ فإنّ الرموز البصرية الماثلة للعيان، مما يدخل في الهيئة واللباس والتصرّفات النمطية؛ تختزن قدرةً تعبيرية عن الانتماء إلى جماعة بشرية معيّنة ومدى الاندماج فيها. ويتحقق الاندماج في جماعات فرعية ضمن مجتمع ما؛ عبر استيفاء قدر من التفاهم التواصلي الذي يغترف من نظام رمزي تتميّز به كل جماعة أو وسط عمّا سواهما. فقد تأتي من بين رموز أوساطٍ شبابية محددة، مثلاً، استعمالاتٌ خاصة في المفردات ومظاهر محددة في الهيئات وتفضيلات مخصوصة في الملابس.

 

إنّ حِرص قطاعات من الفتيان والفتيات، مثلاً، على الإحاطة المتجددة بحياة الشخصيات التي تحوز مكانة رمزية لدى المجموعة أو الوسط، من قبيل مغنِّين وممثلين ورياضيين ونحوهم؛ هو مدخل تقليدي فعّال للبقاء في مركز المجموعة ومجاراة اهتماماتها وأولويّاتها التواصلية، وهو ما تستغلّه الصناعة الثقافية والفنية بعناية عبر الدفع برموز للأوساط المتعددة ساعيةً لجعلها مفاتيح رمزية في هويّات الشرائح والفئات المعنية، أو من خلال استصحاب رمزيات تحظى باهتمام الشرائح والفئات المعنية في مساعيها للترويج واكتساب قيمة معنوية متعدِّية من خلالها، وتتلازم مع ذلك مناحٍ رأسمالية ظاهرة أو مُستترة. وقد تتولّى الرموز والرمزيات في هذا الصدد المساهمةَ في تشكيل هويّة المجموعة أو الوسط؛ بما في ذلك تعريفها والتعرّف عليها من خلال هذه الرموز والرمزيات، وهو ما يطبع بالتالي مواصفات الانتماء إليها أو الإقصاء عنها.

 

إنّ الدين الإسلامي، مثلاً، من حيث هو خاتم الأديان السماوية؛ يلتقي بمشتركات رمزية متعدِّدة معها؛ لكنه يستقلّ بهويّة رمزية ملحوظة عمّا سواه. ومع ذلك؛ فإنّ الإسلام ينطوي على تحييدٍ واسع النطاق للرموز التي أضافتها أديان أخرى أو يقوم على ترشيد للرمزيات ذات الصلة؛ بما يتّسم به الإسلام من الوضوح والمباشَرة، ودرءاً لاحتمالات التوظيف السلبي للرموز والرمزيات على نحو يخالف مقاصد الدين، علاوة على سعة الإسلام في استيعاب كثير من خصوصيّات البيئات والثقافات المتعددة؛ كما يتجلّى في معمار المساجد حول العالم مثلاً.

 

ثم إنّ تكثيف الرموز من شأنه أن يُهيِّئ الأسباب، عملياً، لنشوء طبقة كهنوتية تستحوذ على امتياز التأويل الرمزي دون عامة النّاس الذين سيكونون أحوَج إلى وسيط معرفي أو تأويلي خاص بالرموز غير المفهومة، وسيحوز وسيط التأويل بالتالي سلطة يتخلّلها إشعاع رمزي يبعث على التعظيم الكهنوتي والتوقير المجتمعي وربما التحصيل الجِبائي أيضاً، كما وقع في الخبرة التاريخية الكاثوليكية مثلا. وتُحقِّق بعض التعاليم الدينية، بصفة مقصودة لذاتها و/أو مترتِّبة على أصل الشعائر والطقوس والآداب المقرّرة، خصوصيّاتٍ رمزية للطوائف. ويتجلّى مثل ذلك بأساليب شتّى في نطاقات انتماء متعدِّدة لجماعات ومنظمات وأحزاب وتشكيلات مجتمعية، كما في ظاهرة الألوان الحزبية والرايات والشارات والصُّوَر وإبراز الرمزيات القيادية ذات الصلة.

 

الرموز في الخبرات البشرية تتيح امتيازَ تحديد النطاقات وخطوط التماس؛ التي تقوم عادة على تصوّرات يتلبّسها الافتعال وتغترف من القوالب النمطية والأحكام المُسبقة
الرموز في الخبرات البشرية تتيح امتيازَ تحديد النطاقات وخطوط التماس؛ التي تقوم عادة على تصوّرات يتلبّسها الافتعال وتغترف من القوالب النمطية والأحكام المُسبقة
 
رموز الهويات والنطاقات

إنّ الرموز والرمزيات إذ تساهم في تشكيل الوعي بهويّات الجماعات والأنساق البشرية؛ فإنها تحقِّق بالتالي حاجة متأصِّلة لتحديد النطاقات، فهي تُعين على تقديم إجابات واقعيّة أو مُفتعلة بشأن أسئلة تقليدية من قبيل: من نحن؟ ومن هم؟ وبهذا تحضُر الرموز، أو ما تُعدّ رموزاً، في مساعي الاستيعاب والإقصاء، عبر الفرز النمطي بين "من هم معنا، ومن ليسوا كذلك".

 

وعلى نحو يشبه تقريبا سلوك بعض الحيوانات في تحديد مناطق نفوذه بترك آثاره من رائحة ونحوها؛ فإنّ الرموز في الخبرات البشرية تتيح امتيازَ تحديد النطاقات وخطوط التماس؛ التي تقوم عادة على تصوّرات يتلبّسها الافتعال وتغترف من القوالب النمطية والأحكام المُسبقة. وقد يتفاقم هذا المنحى في اتجاهات من التشنج والشحن والتعبئة والتعالي والاحتقار والكراهية والسلالية أو العنصرية.

 

يتمّ، بالتالي، تعريف "الآخر" من خلال رموز يُراد منها أن تكون دالّة عليه، وعندما يجري في سياقات كهذه خوض صراع ضد هذه الرموز؛ فإنه يأتي غالباً بمثابة صراع رمزي مع الجماعة المعنية بها؛ وقد تتخللها محاولات للفتك المعنوي بالجماعة البشرية إيّاها عبر استهداف رموزها. ولا ينفكّ الصراع المادي التقليدي بدوره عن التلازُم مع خوض صراع رمزي، ويتيح هذا الأخير، على الأقل، تسويغَ الصراع المادي وإذكاءه وشحنه بمقوِّمات التعبئة.

 

ومن تعبيرات الصراع الرمزي أن يقع وصم الرمز وتشويهه، مثلاً عبر تأويل رمزيّته بما ينطوي على إساءة أو بصفة تقضي بإقصائه عن الانتماء إلى نسَق جامع أو حتى إلى مشترك إنساني، وهو بهذا المعنى إقصاء لمن يرتبطون بالرمز أو يتمَظهرون به. يُلحَظ مثل ذلك جليّاً في تعبيرات "الإسلاموفوبيا" وفي الجدل الساخن الذي تشهده بيئات أوروبية على نحو مطّرد فيما يتعلّق بالمسلمين، إذ يتّخذ من بعض ما تُعدّ رموزاً موضوعاتٍ له عادة، من قبيل مآذن المساجد أو قطع قماش مخصوصة لتغطية الرؤوس أو الوجوه. من المألوف أن يقع تأويل هذه العناصر بصفة مُتحامِلة أو مشوّهة وتنزيل حمولة ثقيلة من التأويلات السلبية عليها تكون بمثابة مقدِّمات لطوْر عملي من التعدِّيات أو الإجراءات، مثل الحظر القانوني أو الاعتداء المادي أو اللفظي أو التضييق والإقصاء ونحو ذلك.

 

إنّ الوصم السلبي لمكوِّن معيّن قد يشي بنزعة صراع على المساحة المشتركة أو الفضاء الرمزي، أو بتوجّه مُضادّ لحامِله أو المُعبِّر عنه بالأحرى. يتّضح هذا، مثلاً، في حالة وصم غطاء الرأس الذي ترتديه المسلمات بأنه رمز لمعانٍ كريهة؛ فيقال مثلاً: إنّ هذا الستر هو "رمز سياسي أو أيديولوجي أو جنسي أو علامة اضطهاد"، وغير ذلك. حسب هذا المنحى؛ فإنّ ما يُعدّ نقيض هذا "الرمز"، أي السفور، قد يُعتبر، في سياقات مخصوصة على الأقل، رمزاً لما يُراد في هذه السردية النمطية أنها معانٍ إيجابيّة. وفي حالات أوروبية تعلو فيها أيديولوجيا العلمانية وقد تتطرّف تعبيراتها أحياناً؛ تمنح بعض الخطابات الانطباعَ بأنّ ستر الشعر يُراد به "الأسلمة" أو عُلُوّ الدين، وما قد يُفهَم، بالتالي، من هذا الخطاب أنّ السفور سيُعَدّ بهذا المعنى وكأنه من رموز الحداثة والعلمانية وتعبيراتها الظاهرة.

 

جدير بالنظر ما في هذا الخطاب المتعنِّت من تعبير عن تصوّر رمزي لرأس المرأة في الحالتيْن؛ يكاد يوحي أنّ الاتجاهات تتمظهر فيها أكثر من الرجل، ولمثل هذا صلة محتملة بموروث تاريخي، تأتي في فرنسا مثلا من خلال خبرات منها الرمز الأنثوي ماريان الذي اعتمدته الجمهورية الفرنسية ضمن شعاراتها، وهي تتجلّى في الرسوم والتماثيل حاسرة الرأس وعارية الثدي ضمن مشهد رمزي معبِّر عن الانتصار والتحرّر والديمقراطية والعقل.

 

صراعات الوصم الرمزي
عادة ما تتلازم أطوار الإصلاح والتجديد، أو التردِّي والنكوص، مع تجاوز رمزيات سابقة لصالح رمزيات جديدة، أو بإحياء رمزيّات أسبق لتُزاحِم ما هو قائم

إنّ الوَصم السلبي لرموز مخصوصة في سياقات الصراع الرمزي قد ينطوي على توجّه لحجب الاعتراف عما يُعدّ رمزاً، وهو ما يقود بشكل ما، عمليّ أو تصوّري، إلى إقصاء مكوِّن معيّن يتّصل بالرمز إيّاه. وقد يأتي ذلك أمارةً على استهداف أوسع للمكوِّن المجتمعي المعيّن بما يقوم، أو يشتمل ضمناً، على الفتك بما تُعدّ رموزاً لصيقة به أو معبِّرة عنه.

 

إنها حالة يُعبَّر عنها أحياناً بأوصاف من قبيل "الاغتيال الثقافي" أو "الاغتيال المعنوي"، لأنها تشتبك مع القيمة المعنوية للمكوِّنات المجتمعية أو الإنسانية وتسعى لتقويضها أو إعادة تعريفها، وهو من الأدوار المركزية في "حرب الأفكار" أيضاً. ومن تجلِّيات هذا المنحى، مثلا، حملات النفي والإنكار التي ينهمك فيها حاملو معاول التقويض، كما في حالة يوسف زيدان مثلا الذي ينفي المعنى والقيمة عن الهوية العربية وما يترتب عليها من أواصر، وليس للقدس عنده من قيمة، أما المسجد الأقصى لديه فهو مجرد "اختراع سياسي"، دون أن يكفّ عن مطاردة صلاح الدين الأيوبي بنعوت قاسية تشي بنزعته المُتحامِلة. وبينما يُلصّق زيدان تصنيفات العداء بدول عربية معارضاً استعمال وصف "الشقيقة" معها؛ فإنّ انشغاله المركزي يبقى مسلّطا على تمهيد السبُل لأنسنة القاعدة الحربية الضخمة في فلسطين والتماس سُبُل التعايش معها، دون أن يقوى على استدعاء قيم الحق والعدل والتحرر في هذا السياق.

 

صراع على الرمز

قد يتمَظهر الصِّراع داخل الجماعة الواحدة في شكل صراع على الرمز، بالسعي المحموم للاستحواذ المادي أو المعنوي عليه، أو قد يجري خوْض مُزايدات تتذرّع بالرمز الذي يرقى في التصوّرات لأن يحظى بالمرجعية وأن يكون مانحاً للشرعية و/أو الحظوة. إنها بمعنى آخر محاولة لاستعارة الرمزية من الرمز أو استصحابها وتمثُّلها في الحضور ضمن النسَق. من المألوف، مثلاً، أن تشهد بعض الأحزاب والجماعات وحتى الدول بعد غياب مؤسِّسيها المتنفِّذين ظهور منافسات بين مقلِّدين يحاولون استمداد شرعيّتهم القيادية من فعل محاكاة الرمز المؤسِّس واتِّباعه وتقليده. يظهر في هذه الأجواء من يتباهَوْن بحفظ أقوال الرمز عن ظهر قلب وترديد شعاراته والتوسّع في شرحها والتذرّع بها، علاوة على تقاليد التمسّح البصري بالرمز؛ بتعظيم صوره وأصنامه مثلاً. ويجري في التجاذبات الداخلية ضمن النسق، بالتالي، استعمال رمزية المؤسِّس لإضفاء الشرعية أو نزعها عن بعض الأطراف المتنافسة.

 

وعادة ما تتلازم أطوار الإصلاح والتجديد، أو التردِّي والنكوص، مع تجاوز رمزيات سابقة لصالح رمزيات جديدة، أو بإحياء رمزيّات أسبق لتُزاحِم ما هو قائم. وقد تجري هذه العملية بصفة إرادية مخطّط لها، أو بفعل التّآكل الرمزي التدريجي وبانطفاء جذوة رمزيّات معيّنة في الوعي الجمعي، أو تبعاً لإعادة اكتشاف رمزيّات خلت من قبل. يتجلّى التعبير النمطي المبسّط عن تجديد الرمزيات بصفة هادئة، مثلاً، في سعي مؤسّسة ما إلى تطوير هويّتها التصميمية بما في ذلك شعارها الرسومي (لوغو). وقد يقع هذا التجديد عبر مخاضات جسيمة وصراعات كما عبّرت عن ذلك، مثلاً، التجربة الأوروبية مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر، والتي استهدفت ضمناً تقويض الرمزية البابوية والسلطوية الكنسية، ولكنها أنعشت في المقابل رمزية الإنجيل واستقوَت بها في مواجهة سطوة المؤسسة الكنسية وتقاليدها، بوضع النص وتأويله المباشر بديلاً عن الإكليروس الذي احتكر سلطة التأويل.

 

كان واضحاً أيضاً أنّ المرحلة الاستعمارية التي شهدت في بعض أرجاء العالم العربي والإسلامي محاكاةَ أوروبا المتصّورة وضمور الوعي بالهوية الذاتية؛ قد عرفت، ضمن ظواهر عدة، إعادة اكتشاف رمزيّات ما قبل العهد الإسلامي وإبرازها، مستفيدة أيضاً من كشوف بعثات آثارية أوروبية لمقتنيات ومعالم تعود إلى تلك العهود البائدة. وقد أتاحت تلك الموجة مبرِّرات للخطاب "الوطني" و"القومي" في زمن التجزئة ضمن دول الفتات التي أعقبت إعلانات الاستقلال، علاوة على أنّ هذا المنحى بدا خياراً لمخاطبة أوروبا ذاتها، الساطعة في الوعي، من خارج العباءة المسلمة التقليدية السابغة.

 

وقد كان واضحاً أنّ ثمة اهتمامات أوروبية بهذا المنحى قد عبّرت عن ذاتها بالحفاوة بمدنيات ما قبل الإسلام وآثارها ورموزها، وقد بدا الأمر وكأنه محاولة من الخارج لإعادة نسج الهوية الرمزية لبعض البلدان والأقاليم بالإحالة إلى هوية متجاوزة للإسلام والعروبة والأمّة ووشائجها، وملائمة لثقافة الأعلام المتزاحمة في كيانات التشظِّي، التي رسمت توجّهات سايكس بيكو خرائطها الآيلة إلى مزيد من التفتيت الذي يتطلب شحنات رمزية متجددة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.