شعار قسم مدونات

كيف يطهو الكاتب "غيوم ميسو" رواياته؟

blogs غيوم ميسو

ما زلت أذكر ذلك اليوم حين التَهمتُ أولىٰ الروايات، ومارستُ القراءَةَ كما لم أمارسها من قبل، حتَّى أنَّ عَينَي قَضَتَا خمسَ ساعاتٍ وهُما في وثبٍ مِنْ كلمة لأختها، وأذكر أنهما قَطعتا قرابةَ الخمسمئة صفحة في خمس ساعات، وقد تَسَكعت حينها وللمرة الأولى في شوارع مانهتان وأحياء بوسطن ومقاهي باريس، ولكنِّي رغم كل ذلك لم أحتج لتأشيرة عبور أو تجديد جواز سفري، حتى أنني لم أدفع تذكرة سفر لا أمتلك ثمنها؛ فعلىٰ مَتن روايةٍ قُبطانها هو غيوم ميسو زُرتُ تلكَ الأماكن وتسكعت بها، وقد كان عنوان الرحلة.. أقصد الرواية هو (فتاة من ورق)، وهي الطفلة الرابعة التي أنجبها قلم غيوم ميسو، وحسب خبرتي كقارئ أقول: أنها لا تقل جمالًا عن أخواتها العَشر وهُنَّ: وبعد، نداء الملاك، أنقذني، بعد سبع سنوات، غدًا، عائد لأبحث عنك، شقة في باريس، فتاة بروكلين، سنترال بارك، واللحظة الراهنة.

 

وتتمتع روايات هذا الفرنسي الشاب بلذة حالها كحال الثمرة الحُلوة لا تهدأ نفسك حتى تلتهمها بأكملها، فمن يتذوق صفحة من رواياته يصاب بحالة من الشراهة تجعله يلتهم الرواية بأكملها، وقد قمتُ بدراسة رواياته بحثًا عن أسباب لذَّتها بعدما رَأيتُ إقبال القُرَّاء على رواياته، وعدد مبيعاتها الصعب، ولقد أزلتُ الحجابَ عن بعض سُنَنِه الروائية التي منحته رتبةً عالمية كروائي، ومكانة مرموقة في الأدب الفرنسي المعاصر، وفي الأدب العالمي، فما هي أسباب لذة رواياته؟ وكيف يشيِّدها؟ 

إنَّ من الأسباب التي تجعل من غيوم ميسو روائيًّا برتبة عالميَّة خمسًا، فأمَّا أول هذه الأسباب فهو أنه رسام تُحسنُ ريشتهُ اقتناء ألوانها، فلكلِّ رواية لون وصنف، وأشهر هذه الألوان وألذُّها في نفس القارئ والتي تستسيغها ألسنتهم وتشتهيها أدمغتهم وتطلبها أنفسهم هي الروايات الرومانسيَّة والبوليسيَّة والفالانتازيَّة (الخياليَّة)، فماذا لو اجتمعت هذه الألوان الثلاثة في قالب روائيٌّ واحد؟ فروايات هذا الفارس الفرنسيِّ محقونة بنشوة العشق وشغف البحث وسحر الخيال، فترى الرواية تداعب بأحداثها فضولك وتدق بخيالاتها طبول عقلك ومن ثم تدعو قلبك للرقص في ساحات باريس.

 

استطرادات الراوي كالتوابل تُعطي للرواية طعمًا شهيًّا يحُثُنا على الاستمرار في القراءة، فتراه يذكر لك خطوات الفحص الطبيِّ أو طريقة تحضير وجبة ما حتَّى أنَّهُ يوشك أنْ يذكر لك خطوات عمليَّة جراحيَّة

وأمَّا ثاني الأسباب فهو الترتيب الزمانيُّ، فالروائيّ مهندس أدبيٌّ قبل كلِّ شيء، فهو يحسن تشييد الأحداث وتنسيق أزمنتها بعد أن يعتاشها ويرسمها في خيالاته، فتراه مثلًا يستر عنَّا حدثًا ما لِيذكره في غير موضعه فيزيد الرواية جمالًا ولذة وإثارة في النفس، ولو كان مجرَّد كاتب لرأيته يُلقي بالأحداث حسب ترتيبها الزمني دون أن يحتال علينا في تأجيل أو تعجيل ذكر حدث ما.

 

وأمَّا ثالث الأسباب فهو لأنَّه بارع في طهو وصفته السرديَّة واختيار استطراداته التي تعطي للرواية طعمها الخاص، فتراه يستخدم لغة سرديَّة بمفردات يسيرة على القارئ، سهلة الهضم ولا تسبب التخمة، فهو يذكرُ لنا تفاصيل المكان والزمان والأشياء حدَّ أن يختطفك لدنيا رواياته فتراه يذكر لك ماركة المعطف ولون الحذاء ورقم الشارع وطعم القهوة وغيرها من المقبلات السرديَّة الخفيفة التي تخاطب حواسك الخمسة.

 

وأمَّا استطراداته فهي كالتوابل تُعطي للرواية طعمًا شهيًّا يحُثُنا على الاستمرار في القراءة، فتراه يذكر لك خطوات الفحص الطبيِّ أو طريقة تحضير وجبة ما حتَّى أنَّهُ يوشك أنْ يذكر لك خطوات عمليَّة جراحيَّة، إنَّ مثل هذه التفاصيل تمنح الرواية نكهةً واقعيَّةً ومذاقًا صادقًا تكاد بعدها تحسبُ أنَّ ما يرويه قد حدث فعلًا، وهذا يدل على سِعة ثقافته، التي يفتقر لها كثيرًا من الكتّاب.

 

وأمَّا رابع الأسباب فلأنَّه جنديٌّ يُحسن اقتناء الأسلحة، أليست الحبكة سلاحًا يشهره الكاتب فيأسر به القُرَّاء؟ فترى قرَّاءَ روايات هذا الروائي الفرنسي مأسورين ولا تبرء أعينهم من الحروف إلا بعد إتمام صفحات الرواية كاملة، ولأنَّه أيضًا لا يكتفي بسلاح واحد فالحبكة مهما كانت متينة ستضعف وتخمد نارها بعد تجاوزها مئة وخمسين صفحة على وجه التقدير، زاد هذا الرقم أو نَقُصَ، ولـٰكن العجيب في الحبكة عنده أنها تتفرع لأفرع؛ فهو يخلق حبكة جديدة من صلب الحبكة الأولى مما يزيد الرواية شبابًا وجمالًا فتشعر أنَّ الرواية متعددة الحبكات وما هي بذلك.

 undefined

وأمَّا خامس الأسباب فلأنَّه يُحسِنُ سياسة رواياته واقتناء الشخصيات وبناء الروابط والعلاقات بينها، فالشخصيات عند غيوم ميسو ثلاث: الشخصيات الرئيسيَّة، والشخصيَّة الفالانتازيَّة (الخياليَّة)، والشخصيات الثانويًة؛ فالشخصيات الفالانتازيَّة تقوم بخلق المشكلات في حياة الشخصيَّات الرئيسيَّة التي تبدأ في البحث عن الحلول، وهذا يخلقُ صراعًا بين هذه الشخصيَّات في فصول الرواية.

 

فتأتي الشخصيَّات الثانويَّة في آخر أجزاء الرواية كحلٍّ للحبكة حين تتحول لرئيسيَّة مطلقة الحلول بربط الأحداث المبعثرة مع بعضها البعض فلا تعجب لعدم إلقاء الضوء عليها أو لعدم ذكرها فهذه حيلة مباحة للراوي، والعجيب أنَّ حلَّ المشكلة لا يتمُّ إلاَّ بعد أن تترابط الشخصيَّات مع بعضها، فلكلِّ شخصيَّة علاقة بكلِّ الشخصيَّات الأخرى، ولكلِّ شخصيَّة عالمها الخاص ومشكلتها التي لا يبخل علينا غيوم ميسو في سردها، فكل شخصيَّة جزء من اللوحة الروائيَّة المبعثرة التي تجتمع لتكوِّن الحلّ، وهذه هي العبقريَّة اللّغويَّة التي يحتاجها الكثيرون من الروائيين.

في نهاية تحليلي هذا لأحد أهمَّ الرواة الفرنسيين المعاصرين الذي خلق روايات أشبه بأفلام سنيمائية تبثُّ على الورق بهيئة حبريَّة أقول لكم: أن هذه الأسباب التي ذكرتها هي دروس أدعو الرواة إلى قراءتها قبل أن يُقدموا على كتابة رواية، ففي الوطن العربيِّ بات الجميع رواةً وما هم برواةٍ، وما حال هذا الكاتب وبراعته إلا جزء من مهارة الكتَّاب العالميين في فنِّ الرواية، ولذلك علينا دراسة فنون الرواية العالميَّة حتَّى تبلغ الرواية العربيَّة القدرة على المنافسة في ذلك الماراثون الأدبي العالمي، فلا تعتقد أن اللغة وحدها ستخلق منك روائيًا، فاللغة في النهاية وسيلة لا أكثر ولا أقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.