شعار قسم مدونات

عَالمُ دِيزْني.. طفولتُنا المُشفّرة!

blogs الجميلة و الوحش

"جميع الأعمال الفنية والمعمارية، والمواقع، والحقائق العلمية، والمنظّمات الدينيّة المذكورة في هذه الرّواية حقيقيّة". هي العبارة التي يستهل بها الكاتب الإنجليزي دان براون كلّ أعماله، والتي من دونها ستشعر حتمًا أنّ هناك نقص ما في رواياته، فقد باتت كالتّوقيع الأدبي الخاص به، والذي لن يعتريك الفضول أو الشغف إلاّ بوجودها، كأنّه يُخبرك من خلالها أنّك لن تخرج من صفحاتِ هذه الرّواية كما دخلتها، ستتعلّمُ الكثير وتكتشفُ من الحقائق ما يثيرُ حماسك.

في روايته الشّهيرة "شيفرة دافنشي" والتي تدور أحداثها حول أخوية سيون السريّة "فرسان الهيكل"، وليوناردو دافنشي هو الشخصية التاريخية المستدعاة في الرواية بصفته المعلم الأكبر في الأخوية حسب وثائق اللوفر السرية 1975م، ولارتباط رموز التنظيم وخفاياه بأعماله مباشرة. بطل الرّواية هو "روبرت لانغدون" الأستاذ الجامعي في هارفارد المتخصص في الفنون والرموز الدينية والمجتمعات السرية الباطنية. والذي بالإضافة إلى فكّه للرموز وتحليلها، يعيد قراءة التاريخ الديني والسياسي المسيحي ككل.

بداية جمعيّة سيون الدينيّة أو الأخويّة السريّة هي جمعية أوروبية سرية تأسست عام 1099م في القدس. وهي إحدى أقدم المجتمعات السرية في العالم والتي لا زالت فاعلة حتى اليوم وتعتبر المذهب الوثني لعبادة "الآلهة الأنثى". كان دافنشي رئيس الجمعية من العام 1510 حتى عام 1519 والمعلم الأكبر فيها وفي عام 1975 اكتشفت مكتبة باريس الوطنية مخطوطات عرفت باسم “الوثائق السرية”، ذكرت فيها أسماء أعضاء عدة انتموا إلى جمعية سيون الدينية ومن ضمنهم: إسحاق نيوتن وساندرو بوتيشلي وفيكتور هوجو وليوناردو دافنشي.

كل من شاهد وتربى على أفلام ديزني للأطفال يصعبُ عليه أن يعيد مشاهدتها بعد أن أصبح ناضجًا، دون أن يُلاحظ ويكتشف الرّسائل الخفية التي تقوم بإرسالها للأطفال مُعتمدةً في ذلك على سحر الألوان وجمال الرّسم

بعيدًا عن أحداث الرّواية وبعيدًا أيضًا عن تاريخ وأفكار هذه الجمعيّة، ووقوفًا عند بعض رموزها التي ستكشفُ الغطاء عن الكثير من الحقائق التي قد تغيب عن معظمكم وهو أكثر ما شدّني في هذه الرّواية، يزعم دان براون من خلال روايته أن الكنيسة الكاثوليكية منعت الناس عن ذكر مريم المجدلية (وهي حسب ديننا من النّساء اللواتي آمنَّ بعيسى عليه السّلام، في حين تدّعي هذه الجمعيّة أنّها زوجته وهو ما أثار غضب المسيحيّين)، وعليه فقد اتجهت هذه الجمعيّة إلى الزجّ برموزها في الفن والموسيقى لتخليد قصتها. ومن بينها ورق اللعب، رواية الكأس المقدّسة، الملك آرثر، أعمال ليوناردو دافنشي، وغيرها.

فبالحديث مثلاً عن الكأس المقدّسة والتي تعني حسب المسيحيّين (SanGreal) أي الكأس التي شرب بها المسيح في عشائه الأخير مع الحواريين، في حين حسب ادعاء دان براون ومعتقد جماعة سيون فهي تعني الدم الملكي أو (SangReal) أي ذرية السيد المسيح من مريم المجدلية، وهذا ما تُظهره لوحة دافنشي الشهيرة "العشاء الأخير". حيثُ يظهر 13 قدحًا متشابهًا، بخلاف الرّواية المشهورة عن تمرير قدح واحد بين الحواريين على أنه دم يسوع. ويتضمّن الحاضرون شخصيّة بملامح أنثويّة مخفيّة والتي ترمز لمريم المجدليّة أو الكأس المقدّسة… وغيرها من أعمال دافنشي، بوتيشلّي، بوسان، برنيني، موزارت وفيكتور هوجو والتي همست جميعها سرًّا بقصّة البحث عن الأنثى المقدسة المطرودة واستعادتها من جديد.

 

فالأساطير الخالدة مثل "سير غاوين" و"الفارس الأخضر" و"الملك آرثر" و"الأميرة النائمة"، كانت كناية عن الكأس المقدّسة وتمجيدًا للآلهة الأنثى. كما أنّ رائعة فيكتور هوجو "أحدب نوتردام"، وحتى أوبرا فاغنر بارسيفال هي "تحية للمجدلية"، وسيمفونية "الناي السحري" لموزارت كانت مليئة بالرموز الماسونية وأسرار عن الكأس.

والأكثر غرابة أن نُدرك أنّ الهدف من جميع أفلام والت ديزني والذي كرّس عُمره لتحقيقه، هو تمرير قصة الكأس إلى الأجيال القادمة حيثُ كان يقوم بدسّ رسائل خفيّة ورموزًا سريّة في فنّه. والتي كانت في مُعظمها تتعامل مع موضوع الدين والأساطير الوثنية وقصص عن الإلهة المستبعدة. فكانت مشاهدة فيلم قديم من أفلام ديزني بالنسبة لعالم متمرس في الرموز، كمن يُمْطَر بوابل من التلميحات والإيحاءات. ولهذا لُقّب بليوناردو دافنشي العصر الحديث. فكلاهما كانا سابقان لعصرهما وفنانان يتمتعان بموهبة فريدة، والاثنان ينتميان إلى جمعيات سرية ولديهما روح دعابة لا مثيل لها.

فكل من شاهد وتربى على أفلام ديزني للأطفال يصعبُ عليه أن يعيد مشاهدتها بعد أن أصبح ناضجًا، دون أن يُلاحظ ويكتشف الرّسائل الخفية التي تقوم بإرسالها للأطفال مُعتمدةً في ذلك على سحر الألوان وجمال الرّسم، لزرعها في عقولهم وتكون خلفيّتهم ومرجعيّتهم الفكريّة فيما بعد.

ينمو الطّفل أمام هذا النسق الثقافي المغاير الذي يتكرر أمامه كل يوم، وتنمو معه كلّ تلك الأفكار المشفّرة التي لا يُدرك ماهيتها لكنّه يتبنّاها، ويألفها ويتأثر بها، ويطبقها في دائرته الخاصّة
ينمو الطّفل أمام هذا النسق الثقافي المغاير الذي يتكرر أمامه كل يوم، وتنمو معه كلّ تلك الأفكار المشفّرة التي لا يُدرك ماهيتها لكنّه يتبنّاها، ويألفها ويتأثر بها، ويطبقها في دائرته الخاصّة
 

فبعيدًا عن الأفكار العنصريّة والطبقيّة وحتّى العرقيّة التي تطرحُها في مُعظم أفلامها فهي تروّج أيضًا لأفكار دينيّة وثنيّة، فمثلاً ليست صدفة أن يُعيدوا إحياء قصّة مثل سندريلا، والأميرة النائمة، وبياض الثلج. فكل تلك القصص تعاملت مع قضية الأنثى المقدسة وسجنها. وليس المرء بحاجة لخلفيّة في علم الرموز كي يفهم مثلاً أنّ قصّة بياض الثلج التي أخذت قضمة من تفاحة مسمومة ثمّ استفاقت كأنّها سقطت من الجنة كان تلميحًا واضحًا لهبوط حواء من الجنّة. أو فيلم حوريّة البحر الذي كان عبارة عن أكثر من تسعين دقيقة من الرموز الدّالة على حوّاء والآلهة الأنثى ومريم المجدليّة بشعرها الأحمر، وكذا اللوحة في بيت آرييل تحت الماء، والتي لم تكن إلا لوحة مريم المجدلية، رسمها الفنان جورج دولاتور كتحية إجلال مشهورة لذكرها. وقصة الأميرة النائمة المدعوّة "أورورا" وهو الاسم الذي يرمز إلى الوردة، والتي اختبأت في أعماق الغابة لتحتمي من براثن الساحرة، وهذه ما هي إلاّ قصة الكأس بنسختها التي أُعدّت للأطفال، كل هذا وأيضًا الأفكار الجنسيّة المتخفية في بعض المشاهد من رسوم "سيمبا".

إنّ الإنتاج الإعلامي الغربي بشكل عام وأفلام ديزني بشكل خاص، إنتاجٌ ذكي لا يصنعُ الأفلام من أجل الترفيه أو المُتعة فحسب، فهو يسعى دومًا للتّرويج لأفكاره على اختلافها: سياسيّة، دينيّة، ثقافيّة واجتماعية… بطُرق تغفل عنها أذهاننا كأشخاص عاديّون لا يكترثون ولا ينتبهون للإيحاءات والرّموز التي يطرحها، فهو يعمل من خلال ذلك على إنشاء وعي ووجدان وخيال أطفالنا كيفما يريد. لأنه يدرك تمامًا أن السيطرة على العقول تبدأ من هذه المرحلة، مرحلة الطفولة التي يكون فيها العقل ورقة بيضاء، ينطبع عليها ما يؤثر في مشاعر الطفل.

 

فينمو الطّفل أمام هذا النسق الثقافي المغاير الذي يتكرر أمامه كل يوم، وتنمو معه كلّ تلك الأفكار المشفّرة التي لا يُدرك ماهيتها لكنّه يتبنّاها، ويألفها ويتأثر بها، ويطبقها في دائرته الخاصّة، حتى إذا ما تكاملت شخصيته لم يجد منها فكاكًا فصارت نهجًا معلنًا ورأيًا أصيلاً لا دخيلاً! ـ كيف لا؟ وقد عرفها قبل أن يعرف الهوى فصادفت قلبًا خاليًا فتمكنت منه ـ فلا يجد بعدها حرجًا في الدفاع عنها والدعوة إليها.. ونجدُ أنفسنا نحنُ أيضًا نتلقّاها دون انتباه لخطورتها، بل نتّخذُها مهربًا من عُري الفضائيّات وتفسخها والتماسا لملاذ آمنٍ وحصنٍ حصين لأطفالِنا، خاصّة مع سرعة تفاعلهم مع مادتها وشدّة حرصهم على متابعتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.