شعار قسم مدونات

لماذا يحارب النظام المالي العالمي العملات الرقمية؟

blogs البتكوين

قامت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بتأسيس نظام مالي عالمي صاغته بحيث تفرض هيمنتها على الاقتصادات العالمية عبر صندوق النقد الدولي الذي كان هدفه المساعدة في إعادة إعمار الدول المتضررة من آثار الحرب. واعتمدت سياسة البنك على الإقراض بفائدة حيث تقوم الدول الكبرى والغنية بإقراض الدول الفقيرة وبهذا تبدأ الدول بدفع فوائد القروض لسنوات طويلة ربما تحد من تنميتها بسبب تضخم الفوائد. وقد اعتمدت اقتصاديات العالم على العملة الصعبة، وهي عملات الدول المقرضة لصندوق النقد الدولي في التبادلات التجارية مثل الدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني وتم ربط هذه العملات بأسعار الذهب والمعادن النفيسة في البداية وحين بدأ الدولار بالتضخم جراء الحرب الفيتنامية تمّ ربط أسعار النفط العالمية بالدولار.

العملات الرقمية

العملة الرقمية أو المشفرة وعلى رأسها بيتكوين، هي عملة افتراضية أي ليست نقدية ولا يشرف على طباعتها أو إصدارها أي بنك مركزي. يتم توثيق ملكية العملات الرقمية في سجلات مشفرة مخزنة على أجهزة حاسوب. أنشأ بيتكوين شخص مجهول الهوية يدعى "ساتوشي ناكاموتو" وقد بدأ تداولها في العام 2009. بيتكوين لا تعتمد على وسيط أو سجل مركزي، أي يتم تداول العملة بين البائع والمشتري بدون أي وساطة ويتم تسجيل ملكية العملة الرقمية في سجلات مشفرة منتشرة حول العالم ولا يستطيع أحد اتباع العملة من خلال السجلات لمعرفة مالكها. أي أن أموالك لا يعرف كمّها أحد، لا موظف بنك ولا حكومة ولا غيرها.

على سبيل المثال إذا ذهبت لمحل تجاري واشتريت قطعة ملابس وقمت بالدفع بواسطة بطاقة الائتمان فإن البنك هو الوسيط بينك وبين البائع. وحتى لو قمت بالدفع النقدي فالبنك المركزي هو الوسيط حيث هو الذي أصدر العملة المتداولة. أما إذا استخدمت العملة الرقمية على سبيل المثال البيتكوين وحين تشتري قطعة الملابس فأنت تدفع من خلال محفظة رقمية محفوظة على هاتفك المحمول والبائع لديه آلة تشبه آلة الدفع بالبطاقة الائتمانية، فتقوم بالدفع مباشرةً للبائع. حين تتم العملية تتغير ملكية العملة الرقمية من محفظتك إلى محفظة البائع ويتم تعميم تغيير الملكية على شبكات الحاسوب حول العالم بوقتً قصير بطريقة لا مركزية تسمى سلسلة الكتل – بلوك تشين (Blockchain). أي أنه لا يوجد حاسوب أو بنك مركزي يقوم بالعملية أو على علم بأطرافها وأنّ الملكية تتغير بدون معرفة مَن البائع ومَن المشتري.

كيف تعمل سلسلة الكتل؟
العملة الورقية قيمتها تحددها الحكومات والعرض والطلب واقتصاديات السوق والتضخم والديون الداخلية والخارجية. أما طباعة العملة الورقية فتتم بحسب الحاجة وهي عملية مضبوطة

سلسلة الكتل (بلوك تشين) هي عملية لا مركزية تُستخدم لتوثيق عمليات بيع وشراء إلكترونية عبر تغذية مجموعة كبيرة من الحواسيب بعملية التحويل وتغيير الملكية. ويجب توثيق أي عملية على 51 في المائة من الشبكة قبل اتمامها، وبعد توثيق المالك الأساسي تتم عملية التحويل وتوثيق المالك الجديد بطريقة مشفرة دون معرفة أي معلومات عن المالك القديم أو الجديد. وبهذا فالعملية ليست بحاجة إلى حاسوب مركزي أو أي قطاع تنظيمي لتتم العملية.

بدأت البنوك والحكومات وأيضاً شركات الوساطة المالية باستخدام تقنية سلسلة الكتل التي تعتمد عليها البيتكوين. من أوائل البادئين في تصميم نظام مقايضة باستخدام سلسلة الكتل كان بنك اتش اس بي سي HSBC ودائرة أراضي دبي. حيث ستستخدم دائرة أراضي دبي سلسلة الكتل من أجل مشاركة ملكية العقارات مع المواطنين والدوائر الأخرى في المدينة كمصلحة الكهرباء والماء.

الفرق بين البيتكوين والعملة الورقية

العملة الورقية قيمتها تحددها الحكومات والعرض والطلب واقتصاديات السوق والتضخم والديون الداخلية والخارجية. أما طباعة العملة الورقية فتتم بحسب الحاجة وهي عملية مضبوطة، خاصةً حين نتحدث عن العملات الصعبة. أما البيتكوين فهي عملة محدودة الطباعة فعدد وحدات البيتكوين النقدية الممكن توافرها في المستقبل لن تتجاوز الـ 21 مليون وحدة بيتكوين وكل وحدة بيتكوين تتكون من 100 ساتوشي. أيضاً سعر البيتكوين يخضع للعرض والطلب لكنه خارج إطار لعبة البنوك والحكومات التي ربما تستطيع المضاربة بالشراء والبيع فقط.

عمليات التعدين

عمليات تحويل الملكية وتوثيق العمليات تقوم بها شركات أو أفراد عبر حواسيب متخصصة منتشرة حول العالم وبالمقابل تحصل هذه الشركات أو هؤلاء الأفراد على سلاسل فارغة هي عبارة عن أجزاء جديدة من العملة الرقمية حسب عدد العمليات التي يقومون بها. هذه العملية تسمى التنقيب أو التعدين. حين تنتهي عمليات التنقيب أو التعدين التي ستستمر حتى العام 2140م لعملة البيتكوين على سبيل المثال، سيصبح عدد البيتكون محصوراً وبهذا سيتحكم بالسعر العرض والطلب وثقة الجمهور بالعملة الرقمية. ستقوم بيتكوين وحسب تصميمها بأخذ نسبة كالبنوك من المتعاملين مقابل عمليات توثيق البيع والشراء التي تقوم بها الشبكة لصالح مقدمي خدمات تحويل الملكية والتوثيق حين انتهاء عمليات التعدين.

ما الذي يخيف النظام المالي العالمي؟

نظام المقايضة بدون وساطة الذي تتبعه العملات الرقمية يلغي فكرة المركزية ومراقبة حركة الأموال والأسهم والعقارات وغيره وأصبح من الصعب السيطرة على حركة الأموال ومعرفة وجهتها حتى. نعم هذه اللامركزية والسرية في التعاملات استقطبت الكثيرين من الراغبين في الحصول على الخصوصية والتخلص من سطوة البنوك. لكنها أيضاً أصبحت ملاذاً آمناً للمتهربين ضريبياُ أو لغسل الأموال أو للعمليات القذرة من تجارة الأعضاء والمخدرات التي تتم في الإنترنت المظلم بعيداً عن أعين البنوك والحكومات. أثبتت العملات الرقمية أنها تمتلك القوة الكافية لتقويض سلطة الدولة وتحكمها بالأسواق. ففي تحقيق استقصائي أجراه المجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي حول بيتكوين في نهاية العام 2017، خلص رئيس المجلس جيروم باول الى أن أحد أكبر مخاطر العملة الرقمية هو الخصوصية.

لكن هناك مستفيدون آخرون من العملات الرقمية، الدول التي تخضع لحصارات اقتصادية كفنزويلا مثلاً، أو دول تخضع لعقوبات دولية ككوريا الشمالية. لقد أقدمت الحكومة الفنزويلية على إصدار عملة رقمية مركزية السجل تسمى بيترو وربطت سعر البيترو الرقمي بسعر برميل النفط المحلي وربطت عملتها الرقمية بالنفط والمعادن النفيسة وقد نجحت الحكومة الفنزويلية حسب تصريحاتها ببيع ما يفوق ال 700 مليون دولار من البيترو في فترة الاكتتاب الأولية. يبدوا أن فنزويلا في طريقها للهروب من الضغوط الاقتصادية التي تلاحق عملتها المحلية التي تضخمت كثيراً، بالرغم من الضغط الأمريكي ومنع شراء العملة الرقمية الفنزويلية إلا أننا نرى نتائج جيدة تصب في صالح العملة الرقمية الجديدة. كما أعلنت روسيا نيتها إصدار روبل رقمي بسجل مركزي لإخضاع الروبل الرقمي للبنك المركزي الروسي ولعدم التهرب من ضريبة الدخل لكن مع الاحتفاظ بالسرية التامة للتعاملات وعدم القدرة على معرفة أرصدة المستخدمين.

البيتكوين والإثيريوم ومثيلاتهما من العملات الرقمية التي تستخدم سلسلة الكتل للتوثيق تحافظ على خصوصيتنا وربما تشعرنا بأننا عدنا لاستخدام الذهب الأصفر في معاملاتنا بدلاً من الورق
البيتكوين والإثيريوم ومثيلاتهما من العملات الرقمية التي تستخدم سلسلة الكتل للتوثيق تحافظ على خصوصيتنا وربما تشعرنا بأننا عدنا لاستخدام الذهب الأصفر في معاملاتنا بدلاً من الورق
 

العملة الرقمية لا تخضع لحكومة ما أو نظام عالمي معيّن فما يحركها هو عمليات البيع والشراء والمقايضات، فأنت لن تحتاج إلى تبديل العملة ولن تخضع للبنوك ولن تدفع عمولات. ولهذا نرى محاولات حثيثة من الكثير من الحكومات والأنظمة البنكية لمحاربة العملات الرقمية ويبدو أنهم يميلون الآن لإصدار عملات مركزية السجل مثل الريبل يستطيعون من خلالها تغيير بعض قواعدهم المالية ولكن دون خسارة تحكمهم بالأسواق وانتقال الأموال.

مستقبل العملات الرقمية

العملات الورقية التي نتداولها يومياً لا نعرف كيف تصدر ولا كم النقد المتداول بالسوق. المتحكم الحصري بها هو البنك المركزي، التابع للحكومة. وكل معاملاتنا تخضع للنظام البنكي، لا يوجد لنا خصوصية وندفع عمولات في كل حركة نجريها خاصةً الشركات. ناهيك عن فروق الأسعار حين نبدل العملات أو نشتري بضاعة أو خدمات من بلدان بعملة مختلفة عن العملة المحلية.

البيتكوين والإثيريوم ومثيلاتهما من العملات الرقمية التي تستخدم سلسلة الكتل للتوثيق تحافظ على خصوصيتنا وربما تشعرنا بأننا عدنا لاستخدام الذهب الأصفر في معاملاتنا بدلاً من الورق لأننا نعرف أنه لن يتم طباعة أوراق نقدية جديدة بقرار من جهة سيادية تؤدي إلى التضخم. فما يحدد سعر العملة الرقمية هو المضاربات فقط. بالإضافة لهذا فإن البيع والشراء لا يخضع لوسيط يطالب بعمولة. الحرب على العملات الرقمية حتماً ستفشل وحتى تلك الدول التي بدأت بمحاربتها ستبدو معزولة في المستقبل وستضطر للتسليم.

 

ربما لا نستطيع استخدام العملات الرقمية في معاملاتنا اليومية بمرونة مثل العملات الورقية أو بطاقات الائتمان ولكن بدأ الكثير من الفنادق ومتاجر التجزئة بقبول العملات الرقمية وفي القريب ستصبح خدمات الدفع موجودة في كل مكان حول العالم. يبقى التحدي الأكبر هو الجمهور فإذا زادت ثقتهم بالعملات الرقمية فإنها ستنتشر بشكل أوسع، ولربما تصبح في يومٍ ما بديلاً عن العملات الورقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.