شعار قسم مدونات

استرايجية القوة السايبرانية.. التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية

blogs هيلاري و ترمب

"لقد زودناهم بكل شيء حتى بأحواض المطبخ" هكذا وصف العالم السياسي دوف ليفين من جامعة كارنيجي تدخل الولايات المتحدة في الانتخابات الإيطالية عام 1948 لصالح حزب الديمقراطيين المسيحيين ضد الجبهة الديمقراطية الشعبية والتي كانت تعد ثاني أكبر حزب شيوعي خارج الاتحاد السوفيتي، والحزب المهيمن على المشهد السياسي الإيطالي في ذلك الوقت. وقد تضمن التدخل الأمريكي "أكياساً من المال" على حد قول ليفين، وخبراء للمساعدة في إدارة الحملة الانتخابية، ودعم المشاريع المتعلقة بها، وصولاً للتهديد علناً بقطع المساعدات الأمريكية عن إيطالياً إذا ما تم انتخاب الشيوعيين.

لقد كان التدخل في الانتخابات الديمقراطية سياسة ثابتة للولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة من أجل منع وصول الشيوعيين للسلطة، لقد كانت هذه السياسة تعتبر إحدى أهم وسائل واشنطن لاحتواء الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة. ولقد اتبعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مزيجاً من الوسائل لضمان وصول مؤيديها للسلطة تراوحت – حسب ليفين – بين تمويل الحملات الانتخابية للأحزاب المرغوبة، ونشر المعلومات المضللة أو الدعاية، وتدريب السكان المؤيديين على مختلف أساليب الحملات الانتخابية والاقتراع، والمساهمة في تصميم مواد الحملات الانتخابية والإشراف عليها، والتلويح بقطع المساعدات الاقتصادية الخارجية أو التهديد بالاغتيال أو بغيرها من وسائل الإكراه.

وقد رصد ليفين في دراسته 81 تدخلاً أمريكاً في الانتخابات الديمقراطية للدول الأخرى في الأعوام ما بين 1946 و2000، وهو الرقم الذي لا يشمل التدخلات الأمريكية بعد الانتخابات إذا ما كانت نتائجها على عكس هوى البيت الأبيض؛ أذكر منها على سبيل المثال الانقلاب الذي هندسته وكالة الاستخبارات الأمريكية ضد رئيس الوزراء محمد مصدق في إيران عام 1952، أو في جواتيمالا عام 1954 أو حتى في تشيلي عام 1973.

 

التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016 يعد ربما الأول من نوعه التي تتعرض فيها دول عظمى بحجم أمريكا لهذا النوع من التدخلات الذي يمس واحدة من أهم معاقلها السيادية

ولقد بلغت نسبة من نجح في الوصول إلى السلطة بالدعم الأمريكي في هذه المحاولات 59 بالمائة حيث شملت العمليات 45 دولة حول العالم. هذا مع العلم أن سياسة التدخل في الانتخابات الوطنية لم يقتصر على الولايات المتحدة، فقد حاولت روسيا من جانيها التدخل فيما يقرب من 36 تجربة انتخابية في الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الألفية الثالثة، ما يعني – وفق ليفين – أن الدولتين العظمتين أثناء الحرب الباردة قد تدخلتا في واحدة من كل تسعة انتخابات ديمقراطية جرت على مستوى العالم. وهذا بالتأكيد شيء صادم.

أما في الوقت الراهن، فيعيش العالم على وقع واحدة من أغرب قصص هذه التدخلات وأكثرها إثارة للجدل؛ فمنذ فوز الرئيس دونالد ترامب بالرئاسة وهناك تكهنات كثيرة حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية والتي صبت في صالحه ضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. ومنذ يومين فقط انتقلت هذه التكهنات من مجرد الافتراض إلى الحقيقة المثبتة قضائياً من خلال لائحة اتهام رسمية قدمتها هيئة محلفين كبرى في العاصمة واشنطن يوم الجمعة وشملت اثنا عشر ضابطاً من ضباط المخابرات الروسية وذلك بتهمة القرصة التي تهدف إلى التدخل في الانتخابات الرئاسية لصالح أحد المرشحين عام 2016.

لقد جاء الوقت الذي تذوق فيه الولايات المتحدة من نفس الكأس الذي تجرعته بسببها العديد من الدول في العالم الثالث، فالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016 يعد ربما الأول من نوعه التي تتعرض فيها دول عظمى بحجم أمريكا لهذا النوع من التدخلات الذي يمس واحدة من أهم معاقلها السيادية ألا وهو نظامها الانتخابي الديمقراطي، وهو النظام الذي يُعدُّ الأكثر تقدماً في العالم ويرمز لعظمة الأمة الأمريكية ومدى تحضرها.

وكعادة الروس، وهم الذين يحبون أن يقوموا بالأمور على طريقتهم الخاصة، كان التدخل الحالي مختلفاً عن التدخلات التقليدية السابقة وذلك على مستويين: الأول ويتعلق بطبيعة ونطاق التدخل، والثاني ويتعلق بالأدوات والوسائل المستخدمة. إن نطاق التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وطبيعته بدا صادماً ليس للأمريكيين فقط بل للكثيرين حول العالم، فعلى غير ما جرت به العادة عندما كانت الدول العظمى هي التي تملك الامتياز والإمكانيات للتدخل في انتخابات الدول في العالم الثالث، ها هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم تبدو هشة أمام اعتداء إلكتروني أثر في انتخاباتها الرئاسية.

 

روسيا استطاعت فعلا التدخل في الانتخابات الأمريكية، والتأثير عليها، وإثبات أن الولايات المتحدة الأمريكية غير محصنة ضد الاختراق عالي المستوى الذي تم ضد واحدة من أهم عناصر سيادتها القومية
روسيا استطاعت فعلا التدخل في الانتخابات الأمريكية، والتأثير عليها، وإثبات أن الولايات المتحدة الأمريكية غير محصنة ضد الاختراق عالي المستوى الذي تم ضد واحدة من أهم عناصر سيادتها القومية
 

ربما نحتاج لمزيد من الوقت لحتى تتكشف لنا تفاصيل أخرى حول المدى الذي وصل إليه التدخل الروسي والنطاق الذي ستصل إليها تداعياته ولكن يكفي الآن التذكير بأن شريحة واسعة من الأمريكيين باتوا يقرنون هذا التدخل بهجمات بيرل هاربر عام 1941 وهو الهجوم الذي قامت به اليابان على قاعدة الأسطول الأمريكي في هاواي وعلى إثره دخلت الولايات المتحدة رسمياً الحرب العالية الثانية. وهذه المقارنة تعني أن الأمريكيين باتوا ينتظرون رداً حاسماً من حكومتهم على الروس بسبب هذا الاعتداء الكبير على سيادتهم، وهو الأمر الذي يعد موضع شك خصوصاً في ظل التقارب الشخصي بين الرئيسين بوتن وترامب. 

أما فيما يتعلق بمستوى الأدوات والوسائل المستخدمة في عملية التدخل فقد أظهر الروس فهماً عملياً للتحولات الجارية في مفهوم القوة وتوظيفاتها. فلم تعد القوة تعني امتلاكاً في القدرات العسكرية والاقتصادية، بل في توظيف الامكانيات المتاحة وفق استراتيجية فعالة لتحقيق الأهداف المرجوة، فالعبرة في النتائج لا في المصادر، وما دامت هناك تنوع كبير في هذه المصادر للوصول للنتائج المراد تحقيقها فإن استخدامها بالشكل المناسب يعد أحد تمظهرات القوة في العصر الحالي، وربما تعد وسائل تكنولوجيا المعلومات والانترنت من أبرزها وأكثرها تنوعا.

فحسب ما صرح به المحقق الخاص في التدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكي روبرت مولر فإن وحدة خاصة من الاستخبارات الأجنبية الروسية (GRU) هي من قامت بعملية التدخل بقصد التأثير على الانتخابات الأمريكية. وقد تشكلت الوحدة من فريقين، كانت مهمة الأول منهما القرصنة للحصول على البيانات، بينما كلف الفريق الثاني بنشر هذه البيانات وإدارة عملية التلاعب بتوجهات الرأي العام للناخبين.

وقد استخدم فريق القرصنة طريقتين: الأولى كانت عبر اختراق البريد الالكتروني للحزب الديمقراطي؛ من ضمنهم – على وجه التحديد – المرشحة السابقة هيلاري كلينتون وأعضاء حملتها الانتخابية. وربما تكون من أبرز الحالات التي اشتهرت هي تسريب رسائل مدير حملتها جون بوديستا. أما الثانية فكانت عن طريق اختراق شبكات الحواسيب وتثبيت البرامج الضارة التي سمحت لهم بالتجسس على المستخدمين، والتقاط نقرات المفاتيح، والصور، وسرقة الملفات.

 

تتبع الرد الأمريكي ومعرفة الاستراتيجية التي سوف تتعامل بها مع هذا الاعتداء الروسي سوف يؤسس لمرحلة جديدة في النظام الدولي

ومن الجدير بالذكر أن القراصنة الروس، وبالإضافة إلى اختراقهم للجنة الحزب الديمقراطي، قاموا باختراق المجالس المحلية للانتخابات في الولايات الأمريكية الأمر الذي يرفع من نسبة الشكوك حول تأثير هذه الاختراقات على مجمل عدد الأصوات التي حصل عليها المرشحين الرئاسيين حينها.

أما الفريق الثاني الموكل بالبيانات المسروقة فقد كُلِفَ بالتعامل معها وفق طريقيتن أيضا: الأولى وكانت من خلال نشر هذه البيانات على نطاق واسع من خلال استحداث منصات خاصة أو الاستعانة بمنصات موجودة مسبقاً، فقد تم إنشاء منصة دُعيت بـ DCleaks وهي الشبيهة من حيث عملها بمنصة wikileaks التي تم توظيفها هي أيضا؛ في حين كانت الطريقة الثانية تقوم على استغلال منصات التواصل الاجتماعي من أجل التأثير على الناخبين من خلال الإعلانات الموجهة.

 

وفي هذا السياق يمكن فهم عملية التسريب الأضخم في تاريخ منصات التواصل الاجتماعي التي حدثت منذ عدة أشهر، وعرفت حينها بفضيحة كامبريج أنلاتيكا حيث تم تسريب بيانات أكثر من 50 مليون مستخدم للفيسبوك في الولايات المتحدة، هذا فضلاً عن مئات الآلاف من الحسابات الوهمية التي تم انشائها سواء عبر منصة توتير أو الفيسبوك.

بالأخير، مازال الوقت مبكراً لمعرفة المدى الذي وصلته الاستراتيجية الروسية في التأثير على نسب التصويت بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، أو لأي مدى خدمت هذه الاستراتيجية الرئيس ترامب للوصول إلى سدة البيت الأبيض، ما يهم حالياً هو أن روسيا استطاعت فعلا التدخل في الانتخابات الأمريكية، والتأثير عليها، وإثبات أن الولايات المتحدة الأمريكية غير محصنة ضد الاختراق عالي المستوى الذي تم ضد واحدة من أهم عناصر سيادتها القومية من خلال استخدام آليات تكنولوجيا المعلومات.

 

إن تتبع الرد الأمريكي ومعرفة الاستراتيجية التي سوف تتعامل بها مع هذا الاعتداء الروسي سوف يؤسس لمرحلة جديدة في النظام الدولي، فكما كان هجوم بيرل هاربر محورياً للتأسيس للنظام الدولي الذي ساد بعيد الحرب العالمية الثانية، وهجوم الحادي عشر من سبتمبر محورياً في التأسيس للحرب العالمية على الارهاب، ربما يكون هذا الاعتداء الروسي مؤسساً لمرحلة جديدة للحرب السايبرانية على المستوى العالمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.