شعار قسم مدونات

الأرض المسطحة.. أزمة الدين والوجود!

BLOGS الأرض

قد يبدو الأمر بقدر من الغباء أن نعود بالقول إلى أن الأرض مسطحة، وبقدر من الإثارة عندما يتخندق كبار علماء المسلمين في شرك نظريات من لا يدينون. أليس من العبث بعد الصعود إلى القمر والأقمار السابحة فوقنا لتؤكد كروية الأرض، ثم نعود بهاته السخافات إلى ترهات العصور الوسطى؟ أليس العلم دين وبرهان والدين لا يبرهنه إلا الإيمان، وبالتالي لا يعلو الإيمان إلا بالعلم، بينما لا يحتاج العلم إلى ما يبرهنه؟ ألا يجدر بنا أن نظل متيقظين إلى تلك الأيادي الخفية التي نحس بألمها ولا نرى سوطها؟ هي التي تلعب دور الساحر، وهي المسيح الدجال.

لقد وجدتني أخطو مع الكاتب الإيطالي الكبير بيرانديلو في أزمة الهوية، وحتمية تشكل الإنسان في أقنعة يحددها له المجتمع حتى يتم الاعتراف به، أقنعة لها مواضيع متعارف عليها مسبقا؛ وإلا وجد نفسه ذليلا وضيعا وموضع السخرية والابتذال، لا حل لديه إلا الهروب، ولا ينفعه ذلك إذا لم ينفع الراحل ماتيا باسكال. ووجدتني أتشكل مع نيتشه في إعلانه "موت الإله" وهذا حتما لا يعني إلحاده، ولكن كما عبر عليه هو نفسه بأن الإنسان هو القاتل الحقيقي بعبادته للعلم، وبرهنتهم به عدم وجوده، وهو ليس كما يشاع عليه ممجدا للقوة وهداما للدين بطرح نظرية الإنسان الأعلى أو الخارق.

في تلك الحقبة الجهنمية أوائل منتصف القرن الثامن عشر التي تأسس فيها "المجتمع الملحد" مع الفرنسي أوجست كومت، كانت الحركة الوضعية منهمكة في تحويل عقائد الناس، طبائعهم، وعقلياتهم، منكرة بذلك أي مفهوم ديني، وممجدة العلم الذي بوسعه وحده تفسير كل القضايا الإنسانية. انهارت هذه الحركة وإن كانت أفكارها لا تزال تجثو بطغيانها على الفكر المعاصر، انهارت بعد فشل المجتمع بالتعريف على نفسه دون إله.

صعد الأمريكيون إلى القمر ولم يصعد في وقتنا هذا غيرهم، رغم الفارق الهائل في التقدم التكنولوجي والمادي للعديد من الدول الصناعية الكبرى

كانت من نظريات تلك الحقبة أن خلقت صورة للكون دون حدود أو نهاية، كون بدت فيه الأرض شيء تافه وتزداد تفاهته كلما ازداد توسعنا في إدراك استحالة الوعي باللامنتهى، وهذا ما يفسر تفاهة الإنسان نفسه واستصغاره، حتى غدا أجوف الخلق والخليقة؛ اخرق الطبع والطبيعة، لا قيمة له أو اعتبار ولا قدر أو اقتدار، إلا إذا ثم استعار شكلا من القوالب التي يتم تحديدها من أجل الهوية والاعتراف، وإلا فالناس أفئدتهم هواء. ظهرت الديناصورات فجأة وكان أصل الإنسان قردا، ظهرت المخلوقات الفضائية أو احتمالية وجودها ولم يكن آدم أبو البشرية، الذي خلقه الله على هيئته في أحسن تقويم. فُسِّرت طبائع الناس كبتا جنسيا؛ وشُرعِن الجنس بفك كل القيود عنه، امْتُلك الإنسان وأصبح أداة لا تحسن إلا التدمير، كل هذا كان يتم على حلبة الدين والاعتقاد، كان الهدف واضحا في تدمير المسيحية التي ظلت لعقود وهي تدير تقريبا كل شيء، والتي جلبت عليها أخطاؤها بحور الويلات، وكان ما كان.

كان أن رأى الناس بأم أعينهم عبر الشاشات أول إنسان يضع رجله على سطح القمر، وفي الحقيقة لم يكن هو الأول، بل طاقم التصوير الذي حمل معه كل المعدات ليباشر هاته النقلة النوعية أو بالأحرى هذه المسرحية العالمية، تلك المعدات التي تحملت كل المشاق وتجاوزت المستحيل حتى حزام فان آلن الإشعاعي بقوته المغناطسية، لتلتقط لنا العلم الأمريكي وهو يرفرف في الفراغ؛ دونما ريح تنفخه أو بهلوان يدغدغ نتوءاته، صعد الأمريكيون إلى القمر ولم يصعد في وقتنا هذا غيرهم، رغم الفارق الهائل في التقدم التكنولوجي والمادي للعديد من الدول الصناعية الكبرى.

لا أريد الاستطراد في هذا الأمر فالدلائل كثيرة وقطعية، ولكن ما يشد انتباهي هو هذه الاستفاقة المستعرة من الأرضيين الذين انبروا بكل ثقلهم الفكري والعلمي على السواء، لدحض كل ما بنيت عليه معارفنا حول شكل الكون وموقع الأرض منه، استعملوا السلاح الذي طُعنوا به، سلاح العلم والحجة والمنطق، مبرهنين أن الأرض من تفاهة القول عنها كروية. والحقيقة أنها في كتاب الله العليم، تمتد ما امتدت إليه السماوات، والإنسان المخلوق عليها له من عظم التشريف وكامل التكريم، ما يجعله موضع التبجيل ومنتهى القدر والاقتدار، وأن الشمس ليست بتلك الهالة من الكبر والقدر من البعد، وإنما هي من صغرها لن تستطيع إضاءة كل المعمور، فقط بدورانها تظهر مشرقة وبتوليها المتواضع يكون غروبها في مسار دائري حول الأرض، تسبح ربها وتستغفر للذين آمنوا. بل إني استغرب دورانها في ساعة واحدة وهي تقطع هذا الهول من الكيلومترات منطلقة في الفضاء بسرعة تفوق الخيال نفسه؛ بينما يقف الشاعر في سكون الليل الجذاب، يسامر القمر، ويقلب في صفحة البحيرة الهادئة هدوء الرحمة الإلهية؛ تعابير وجهه المنعكسة وهي تتأمل تقاسيم الحب الأول.

لا يظن أحد منا أن علوم هذا الزمان هو المسار الصحيح والاحتمال الأوحد للعقل والإيمان، ولكن هو شكل من الحضارة من بين عدد لا نستطيع تحديد من سبقوا في إنشاءها

لا أريد الاستطراد حتى في هذا، فالدلائل كثيرة، ولست مع هؤلاء أو أولئك أو لي من العلم ما يخولني إثبات هذا ودحض ذاك، ولكني أولا وآخرا مسلم لا أومن بلا نهاية الكون، لان بهذا يستوجب على الله أن يكون أكبر من اللانهاية، وهذا ما لا يستسيغه عقل أو إيمان. ولا أومن بتفاهة الأرض أمام عظم الكون اللامحدود، لأن القرآن يقرن دوما السماء بالأرض بالشكل الذي تكون فيها الأرض من المكانة الواجب في حقها.

الحقيقة أن الأرضيين وفروا علينا أسئلة كان يستعصي الحل معها في تفسير أو فهم بشكل مناسب؛ العديد من الآيات التي تتلى علينا أو نرتلها بشكل دائم، فالملائكة تعرج إلى الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما نعد، وهذا كان المشهد الذي يتصور إلى تمامُه داخل الكون الذي لا حد له، مع ايماني بان الله محيط بكل ما خلق ولا أعرف في توهاني كيف يتأتى هذا، كنت ابحث عن العوالم الغير المادية وكيف لها أن توجد خارج المادة التي صور لنا العلم المعاصر أنها تستحوذ على كل الوجود، وكنت أتساءل عن الصحابي الذي حكا الرسول عنه خبر الدجال عندما تلاعبت به الأمواج؛ وتاه في البحار مركبه، حتى وجد نفسه أمام جزيرته، كنت أتساءل من أين وكيف يخرج رغم أن الأقمار ترصد كل شيء، وهي في الحقيقة لا ترصد إلا ما أراد منها المبرمج في برامج الفوتوشوب والافترافكت وغيرهما؟ 

ولكن أين نحن مما يقول هؤلاء وأولئك؟ كم هو مشين وضع علماؤنا إذا كان الأمر فيه لبس وشك وريب، ليس الذين كلما سمعوا خبرا حول الكواكب والأجرام تراهم يتسابقون وألسنتهم تجتر اللعاب من لهفتهم بالقول: أن القرآن سبق العلم إلى إخبارنا بأربعة عشر قرنا، اسطوانة تشمئز لسماعها الأذان! وتراهم يجهدون أنفسهم لإلباس القرآن ما لم يكن ولن يكن في يوم ذاك لباسه، ولكن المشين هو وضع علمائنا الذين نعتد بفتاواهم كالألباني وابن عثيمين وغيرهم، وأنا لا أكن لهم إلا الحب والاحترام والتقدير، كيف سقطوا في فخ من لا يدينون ويضعونهم موضع التقاة، وهم من علمونا أصول الدين الذي بناه الأولين؟ من كانوا يجاهدون النفس في السفر الشهور والسنيين، من أجل حديث ظنوا في صاحبه الصدق واليقين، كيف قالوا بكروية الأرض وهم لم يتحققوا علميا أو عينيا من الأمر؟ ألم يجدر بهم أن يسكتوا ويكون مخرجهم أسلم؟ لا تتفوهوا بشيء معذرة! عسى أن تؤخذوا مثلما كان الأخذ من داعية أراد الاستدلال بطريقة جعلت منه مثارا للضحك والسخرية، فكانت من القنوات العالمية وصحفهم أن تناقلت الخبر متهكمين مستفكهين، وحولهم ألاف بمن يقولون بنفس الأمر ولكن لم يكن ليجابهوهم خوفا من حجتهم، ورهبة من استدلالهم المستقوي على وضعه للنقاش حتى.

لا يظن أحد منا أن علوم هذا الزمان هو المسار الصحيح والاحتمال الأوحد للعقل والإيمان، ولكن هو شكل من الحضارة من بين عدد لا نستطيع تحديد من سبقوا في إنشاءها، مكَّن الله لهم ما لم يمكنه لنا قوة وعلما، طُمسوا في غياهب النسيان؛ لهم ما اكتسبوا ولنا ما اكتسبنا، ولا نسأل عما كانوا يعملون، بل نُسأل عما يصنع هؤلاء وما يضمرون، فالإيمان وحده هو مطلق الحقيقة وغاية الفضيلة، وأن ما دونه حلم في حلم، دون اليقظة وفوق الغفلة والنسيان؛ يغشى منا ما تغشى، ومن لا يبغ يمت بلا ذكر، يصغر فيهلكِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.