شعار قسم مدونات

الفقر الذي قصم ظهورنا

blogs الفقر

ألجأها الفقر والحَاجة إلى الموافقة على طلب ابن عمها الذي يحبها حبًا شديدًا، فقط مائة وعشرون دينارًا كانت الحاجة التي أوقفتها موقف المذلة ورضخت في التخلي عن شرفها فوافقت على طلبه فلما قعد منها مقعد الرجل من زوجته، قالت له اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فنجاها الله الذي يعلم سرها وجهرها، فكان الفقر الذي أرغمها على ذلك فنجاها الله بحسن نيتها وكذلك ينجي المؤمنين، فما افتقرا عبداً لله إلا زاده الله غنى، وما تذلل لله عبدًا إلا زاده الله عزًا، وكلما خاف العبد من الله زاده أمنًا، وما تواضع لله عبدًا إلا رفعه، الفقر الذي كاد أن يكون كٌفرًا، تراه في تلك الأجساد الهزيلة الذي دب الجوع في أوصالها وزادت الأمراض بسبب سوء تغذيتها بينما هناك بطون لا تستطيع أن تتحرك من تخمة اللحوم والشحوم على بطونها.

  
الفقر الذي حرم بعض الأطفال من إكمال مسيرتهم التعليمة بل كان على الجانب الآخر من يتدلل على معلميه من قسوة المناهج المعطاة لهم بالمنزل، الفقر الذي أجبر الكريم أن يترك أهله وأولاده ويسافر ويعمل لدى اللئيم وهو أفصح منه وأعلم منه بياناً فوافق على الذل والمهانة من أجل ما يسمونه لقمة العيش، الفقر الذي جعل الأزواج ينفصلون خشية إملاق لضعف إيمانهم مع ضعف فقرهم فكانوا هشيماً تذروه الرياح، الفقر الذي أرغم الكريم أن يمد يده سائلاً الناس ومن استوطنوا دياراً غير ديارهم مشردين بين القهر والذل والمهانة، الفقر الذي جعل السارق يزيد سرقه ويأكل مال غيره وينشئ أجيالاً جديدة من لصوص ومرتزقة، الفقر الذي أوقف قراصنة الصومال على أعتاب البحار يصطادون سفن المارة معلنين نحن نموت جوعاً وأنتم تلقون القمح في المحيطات.

  

أيها الأغنياء الذين منّ الله عليهم من فضله، هذا مال الله الذي بين أيديكم وهو مستخلفكم فيه فلا تبخلوا على من هم دونكم ولا تنظروا إلى أنفسكم على أنكم مخلدون في الأرض

الفقر الذي جعل بعضهم يتغطى بأوراق الشجر وبعضهم يجف الدماء في عروقهم وبعضهم ينفض البرد أطرافهم، الفقر الذي جعل المسلمين يقفون على أعتاب دول الكفر ماديين أيديهم لمعونات تحمل استبداد سياسياً وتبعية وشروط قاسية حتى تُطعم الأفواه، الفقر الذي جعل عفيفات مسلمات يوافقن على الزواج من الكريم واللئيم دون شروط أو مهور مغصوبين، لا يعلم حالهم إلا الله، والفقر الذي جعل البعض يأكل من صناديق القمامة وآخرين يحزنون إذا وجدوا أبواب المطاعم مغلقه في وجوههم، فالفقر هو الشيء المقرون دائما بالكفر مذموم في القرآن والسنة وقد استعاذ منه الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف الفقر حقًا إلا من تجرع مرارته، فكثيراً من الناس لم يكن يفهم ما معنى من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما أجيزت له الدنيا بحذافيرها، إلا بعد أن دب الجوع في أوصاله وضعف الجسد استقامته وفقد الأمن في بلاده، فندم على تلك الأيام الخوالي وعلم أن ما بدل الله أحواله إلا بسوء تقصيره وكثيرة ذنوبه.

  
أيها الناس اعلموا أن الله له حكمة في فقركم وضعفكم وحاجاتكم فهو بعباده خبيرًا بصيرًا فلا تعترضوا ولا تقنطوا وإنما ارضوا واسعوا في جلب الرزق، وتوبوا إليه من ذنوبكم وأدرانكم، واستعيذوا بالله من الفقر، ولا تستعجلوا الرزق بالحرام فكل شيء عند الله بمقدار وطهروا قلوبكم من الحقد على من أغناهم الله من فضله فلا تعلموا ماذا أخذ الله منهم وأعطاهم المال، احذروا أن يوقعكم الشيطان في الفاحشة فقد قرنها الله بالفقر مدى الحياة، اعلموا أن الاستغفار يجلب لكم الأرزاق فأكثروا منه واتقوا الله في أفعالكم يصلح لكم أحوالكم.

  undefined

 

أيها الأغنياء الذين منّ الله عليهم من فضله، هذا مال الله الذي بين أيديكم وهو مستخلفكم فيه فلا تبخلوا على من هم دونكم ولا تنظروا إلى أنفسكم على أنكم مخلدون في الأرض وأن ما أنتم عليه دائم أبدا فإن النعم لا تدوم ولدوامها لابد أن ترعاها وأن تتقي الله فيما أتاك من نعم وتنظر إلى الفقراء والمحتاجين والأرامل وغيرهم على أن لهم نصيبًا مما أتاك الله فليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع كما أن الله حرم اكتناز المال وتعطيله فلا ينتفع به ولا يستفاد منه، فلن تنال البر حتى تنفقوا مما تحبون، فهل أنفقتم وهل أديتم حق الله عليكم.

  
إن الوقت الحالي الذي دق فيه خطر الفقر على أوطان المسلمين لهو أفضل الأوقات لحث الأغنياء على الشعور بمن يتألمون جوعًا، ومن هم معدومين ومن هم على الأسِرة البيضاء ممددين من الأمراض، فيا أيها الكريم الذي أكرمه الله من فضله أدعوك أن تذهب لزيارة سريعة للمستشفيات وترى بعينك كم هم المعذبون في الأرض، ادعوك لترى النائمين على أرصفة الشوارع وتحت الكباري والبرد القارس يضرب أجسادهم، أدعوك لترى من هم يأكلون من صناديق القمامة، فإذا رأيت كل ذلك ولم يحرك لك ساكن فأنت والله على خطر عظيم، فلا تغرنكم الحياة بزخارفهم وطول الأمل بين عينك فانظر إلى السابقين من المتكبرين قد فعل الله فيهم ما فعل بسبب اكتنازهم أموالهم وحبسها عن الفقراء ومنع إخراج زكاتهم، فالكثير منهم أورثها لأولاده وأحفاده الذين انشغلوا بالحياة عن الترحم عليهم، فلا تحرم نفسك أجرًا أنت الآن قادر عليه وغدًا تحتاجه أشد احتياج فاتقوا النار ولو بشق تمرة، وربما دعوة من أشعث أغبر تنقلك من حفر النار إلى رياض الجنة.

  
وإن السعادة تنبع من العطاء ولو لم تصدقني جرب بنفسك عندما تساعد محتاج أو تفرج عن مكروب همًا أو تكون سبب ابتسامة أحدهم ستجد سعادة طاغية على قلبك أنك كنت سببًا في إدخال السرور على أحدهم ويرزقك الله بالمثل أن تجد ما يكون سببًا لدخول السعادة قلبك، فلا تحرم نفسك وتحرمهم من فضل الله عليك فاليد التي تقدم الورد لابد أن يعلق بها عبيرها، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيهُ، فازرع جميلاً ولو في غير موضعه فلا يضيع جميل أينما زرع فإن الجميل وإن طال الزمان به فليس يحصده إلا الذي زرعا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.