شعار قسم مدونات

الابتكار والإبداع هو من يفرض المعادلات!

blogs البالونات الحارقة

حينما تجد الشعوب نفسها أمام حتمية الدفاع عن بقائها وتحرير أرضها من يد الطغاة الغاصبين، فإنها تقدم صور ونماذج مختلفة ومغايرة لما هو مألوف في صفحات هذه الحياة، فنجد التاريخ لازال يحمل في طياته وثناياه الكثير من المشاهد والشواهد لأساطير الحروب.. أبطالها هم أصحاب الحق وأهل القضية، نجد في التاريخ الكثير من القصص البطولية لشعوب تدافع عن سيادتها وعن بقائها أمام الكثير من الغزاة الطامعين. فعندما تفرض قلة الإمكانيات والأدوات معادلة الابتكار والتكيف بما هو موجد؛ يصبح للإبداع والابتكار معنى في نضال تحرر هذه الشعوب، عن طريق خرق قواعد النّدرة بمنحها هبةً تلو الأخرى بالاستفادة بما هو متاح.. بعملية معقدة ينجح وينتصر فيها من يَدفع فاتورة هذا الابتكار أولًا.

 

إن الاعتقاد بأن الواقي الذكري يومًا ما سيكون الرعب الحارق للعدو الصهيوني الذي سيكلف خزينة تل أبيب عشرات ملايين الشواكل، بسبب الحرائق التي تشعلها في الحقول المحيطة بقطاع غزة.. ممكن يكاد يكون مثل الإيمان بالسحر، وبأنّ إخراج أرانب من قبعة فارغة هو أمر معقول. ومع ذلك، وبالرغم من غرابة الأمر، إلا أنه قد نجح السحر.. من خلال الساحر الفلسطيني فقط.
   

سيادة الشعوب وحريتها ترتبط بجوهر الإنسان كونه كائن يمتلك الإرادة ووعي تام بالمخاطر، بتصميمه على التمسك بحرية السيادة والاختيار

عندما ابتكر الشبان الفلسطينيون البالونات والطائرات الورقية التي تحمل مواد حارقة.. كأسلوب جديد لمواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي في مسيرات العودة وكسر الحصار على الحدود الشرقية لقطاع غزة، حاولوا هؤلاء الشبان إيجاد طرائق جديدة ومتطورة أكثر قوة ومتانة وعمقًا. بالاستفادة من المواد المتاحة.. وجد الشُبان الفلسطينيون الكندوم "الواقي الذكري" الذي تقدمه مؤسسات دولية لسكان قطاع غزة بهدف تحديد النسل السلاح المناسب لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي لأنه أكبر حجمًا وأكثر قوة.. حيث أنه يتحمل درجات حرارة أكثر من غيره من البالونات وقدرته على احتواء كميات كبيرة من الهيليوم الذي يساعد على حمل المواد الحارقة. فأصبح الواقي الذكري في يد الشبان الفلسطينيين من مانع حَمل وإنجاب إلى حَامِل للفتائل ومُنجِب للحرائق!
   
إن هذا الشعب شعبٌ عريق وأصيل يكسرهم بمبادئه وقيمه قبل أن يكسرهم بسلاحه ورجاله، إنه شعب غزة الذي يلقن الأعداء والغزاة دروس نوعية في الابتكار والابداع، رغم قلة ذات اليد وضعف الإمكانيات التي يدافع بها عن نفسه، عن بلده، عن كرامته، إلا انه لا زال صامدًا كصمود الجبال، وثابت ثبوت الراسخين في كل جبهة وفي كل منعطف، وفي كل صورة من صور تاريخه، أدهش العالم وصار محتار في طبيعة هذا الشعب، وتركيبته النفسية والمعنوية، رغم هذا الحصار الظالم من كل الجهات. 
   
القصف لا يتوقف! المخابرات العالمية تحدد الأهداف، وأحدث التقنيات موجودة والكثير من القتل والدمار لهذا الشعب المظلوم، كل هذا لأنه فقط متمسك بحبل الحرية.. ويدافع عن عرضه وأرضه ومقدساته بكل ما أوتي من قوة وشجاعة.. خصوصاً وأن الطرف الآخر يحتشد وراءه كل العالم ما بين داعم ومشارك وصامت. بينما يتلقى هذا الشعب ضربات جيش الاحتلال، حتى صارت حالة الهستيريا المفرطة واضحة وظاهرة في تصرفاتهم الظالمة، حيث يتوجه بطائراته الحربية لقصف أحياء سكنية مدنية، ومدارس ومساجد سلمية، وأطفال ونساء أبرياء وبقنص صحافيين ومسعفين..

 

undefined

 

لم يرفعوا حَجَرًا ولا سكين، سوى بعض من الشاش والقليل من الأيودين، فيما يتحرك شبان الثأر بكل سلاسة داخل مواقعه، وفي العمق أراضينا المحتلة، يوجهون ضربات قاصمة للعدو في عقر داره.. ولازال هذا الشعب العنيد الصامد.. يفرض ويوجع في جيشهم ويذيقهم الويلات، هذا الشعب، فكيف بالمقاومة؟!.. فيما المستضعفين العرب يشاهدون هذه المسرحية بكل فخر وإعجاب، ويعتبرون الفرج قادمًا ويأملون أن يكون على يد الشعب الفلسطيني خلاصهم من دكتاتورية طغاة، وقمعيون يعيشون ثراء فاحش على حساب حريتهم وكرامتهم.
   
تتابع الأحداث حدث تلو الآخر والجميع يترقب .. لكن للأسف! لم تنته هذه المسرحية بعد. بينما الكل ينتظر نصر إلهي يكون بحجم التضحيات الكبيرة التي قدمها هذا الشعب في محراب هذا التاريخ وعلى عَتَبات المبادئ والقيم.. وذلك لن يعجز الله ما دام النصر لا يأتي إلا من عنده، وما دام الشعب الفلسطيني واثق بالله وبنفسه وبعدالة قضيته.
 
إن سيادة الشعوب وحريتها ترتبط بجوهر الإنسان كونه كائن يمتلك الإرادة ووعي تام بالمخاطر، بتصميمه على التمسك بحرية السيادة والاختيار، فإن لمكانته دون غيره من المخلوقات أسمى منزلة، كونه عنصرًا عاقلًا وقادًرا على التخطيط والتكيف والابتكار بما هو موجود بتجاوز كل الحتميات والعوائق التي تتعرض له، فلا يمكن للشعوب تجسيد النصر والتحرير على أرض الواقع وممارسته عمليًا بدون النظر لقدرتها على التقرير والاختيار وانتخاب الإمكانية من عدة إمكانيات موجودة وممكنة. فما نحن عليه الآن ناتج لما هو في عقولنا، بينما الشعوب التي تُطور ما تملكه لتصل لما هو خارج صندوق إمكانيتها.. قادره على اختيار وتعيين حياتها الخاصة، ورسمها بأجمل لوحة فنية ترتقي بذوقها صعودًا حتى تصل إلى حالة من حالات النشوة والمتعة في ارتشاف ألوان العزة والكرامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.