شعار قسم مدونات

ما وراء الشريعة.. بين فقه العبادات وفقه المعاملات

blogs - مكتبة

لم يكن الله ليشرع لعباده شيئا أو ينزل عليهم دينا بغير غاية وهدف، فالله أولى من يُنزَّه عن العبث واللهو سبحانه، بل إن غاية الموجود تتناسب مع منزلة المُوجد له، والله أحكم الحاكمين فاقتضى ذلك أن تكون المقاصد من وراء خلقه وتشريعه هي أسمى المقاصد وأرفعها.
 
في الماضي.. ومع نشأة علوم الفقه، قسم المجتهدون أحكام الإسلام إلى قسمين؛ عبادات ومعاملات، مع أن ما يقوم به المؤمن من صلاة ونسك ومحيا وممات كله عبادة لله، من ناحية المفهوم الشامل والواسع للعبادة، لكن هذا التقسيم فرّق بين العبادات المحضة التي لا مجال لإعمال العقل في فهم تفاصيل أحكامها، وبين المعاملات مدرَكة المعنى والعلة من حيث الأصل والتفصيل.
 
ففقه العبادات يشمل الأحكام العملية التي تنظم علاقة العبد المكلف بالله، مثل: الطهارة والصلاة والزكاة والصوم وغيرها. أما فقه المعاملات فيتضمن جملة من الأحكام الشرعية العملية التي تنظم علاقة المكلف بغيره، كالأحكام المدنية، وفقه الأسرة، والمرافعات، والحدود، والعلاقات بين الحاكم والمحكوم، والعلاقات الدولية، والأحكام الاقتصادية، والعقود، وغيرها من المواضيع والأحكام الفرعية المتعددة.
   

الأغلال والقيود التي يضربها الفهم الظاهري على أتباعه في مسائل تتعلق بمعاملات شخصية وقضايا فردية هنا وهناك

والعبادات مفهومةٌ مقاصدُها كما قلنا من حيث أصل تشريعها وفرضها على الناس، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم غايته الوصول لتقوى الله تعالى "لعلكم تتقون".. وهكذا، إلا أن تفاصيل هذه العبادات كمواقيتها وعدد ركعاتها وحيثيات أدائها غالبا ما تكون مجهولة المعنى، وبالتالي يتعذر القياس بينها، حيث أن القياس هو إلحاق حكمٍ ما -ويسمى الفرع وهو ما لا يوجد في حكمه نص صريح- بحكم آخر وهو الأصل الذي ورد فيه نص، لوجود علة جامعة بينهما، أي لوجود سبب مشترك جاء صراحة في تعليل حكم الشيء الأول، فأُلحق الثاني به وأخذ حكمه قياسا عليه. لذا فقد قيست المخدرات في إذهابها للعقل على الخمر مثلا، وأُلحقت بحكمها لاجتماعهما في علة الإسكار، هذا مثال على ما يسمى اصطلاحا بالقياس بين أحكام فقه المعاملات.

 

والعلة إما أن تكون مذكورة في النص صراحة، أو تكون مستنبطة باجتهاد أهل التخصص عبر ما سموه بمسالك العلة، ويدور مع هذه العلة الحكم بعد ذلك حيث دارت، ثبوتا وانتفاء. فالمعاملات معللة إذن، والأصل وجود غاية ومقصد يمكن للباحث إدراكه من تشريعها، لذلك اعتبر الجمهور القياس المصدر الرابع من مصادر التشريع، بعد القرآن والسنة والإجماع، ولم يخالفهم في ذلك سوى الظاهرية فيما أعلم، لكن فقهاء الظاهرية كابن حزم كانوا -فيما عدا المسائل التي يعوزها القياس- موسوعة وإضافة نوعية للتراث والفكر الإنساني وليس الإسلامي فقط، فطوق الحمامة لابن حزم يعتبر من أشهر الكتب التي تناولت موضوع الحب في التاريخ، وقد تمت ترجمته إلى العديد من لغات العالم.

  
undefined

 

اندثرت بعد ذلك مدرسة الفقه الظاهري، وبقي تراث بعض فقهائها في مسائل شتى ليثري الثقافة والفقه، إلى أن عادت الظاهرية بوجه معاصر لتكتسح الخطاب الإسلامي اليوم، وتشيع في الفقه فهما ظاهريا جرد حتى المعاملات من عللها ومقاصدها، وحوّل الشريعة كلها تقريبا إلى أحكام توقيفية مجهولة المعنى، ونقل ما في دائرة المعاملات ووضعه في دائرة العبادات المحضة، وعلى المسلمين أن ينفذوها كما جاءت من عند الله، من دون تفكر أو اجتهاد ونظر لما وراءها من علل ومقاصد.

 
فإسبال الثوب بإنزاله عن حد الكعبين حرام، أقَصَد الخيلاء منه فاعله أم لم يقصد، ووصل الشعر محرم حتى على المرأة المتزوجة المريضة التي ابتليت بالصلع!! مع أن ذلك ليس فيه غش ولا تدليس على الزوج، بل فيه حفظ للأسرة ولنفسية الزوجين، حتى نمص الحاجب فقد نقلت الموسوعة الفقهية أن الجمهور على عدم جوازه لغير المتزوجة فقط، لأن في ذلك غش لمن أراد الخطبة، أما بعد الزواج فقد انتفت علة التحريم، فعاد النمص إلى أصل حكمه وهو الإباحة كسائر وسائل زينة الزوجة أمام زوجها.
   
هذه أمثلة بسيطة على الأغلال والقيود التي يضربها الفهم الظاهري على أتباعه في مسائل تتعلق بمعاملات شخصية وقضايا فردية هنا وهناك، وكيف يفرغ هذا الفهم أحكام الإسلام من مضامينها وحقائقها، لكن الخطورة الأعظم تكمن حين تسيطر هذه العقلية على اجتهادات مصيرية تتعلق بمستقبل الشعوب والأمة بأكملها، هنا يتحول هذا الفقه إلى فقه كارثي!
   
في حين كان فقه السلف فقها مقاصديا معلِّلا للأحكام، وحيويا في اجتهاده ونظره إلى ما وراء الشريعة من مقاصد وغايات، متوقفا في العبادات المحضة فقط، أما فقه الخلف اليوم، فهو رِدة ظاهرية تُثقل الفقه ولا تثريه، وتضرب عليه قيود الجمود، في فترة نحن بأمس الحاجة فيها إلى تجديد الفقه وإحيائه، في إطار أصولي منضبط من غير انفلات في الوقت ذاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.