شعار قسم مدونات

وقفوهم إنهم مسؤولون!

مدونات - رجل لامبالاة حزين

إن العيش في هذه الحياة يقتضي تحمل مسؤوليات عديدة، بعبارة أخرى الإنسان في حياته مكلف بتأدية مسؤوليات معينة تلقى على كاهله، ويختلف عددها وكبر حجمها من شخص لآخر كل على حسب موقعه ومكانته، بحيث يكون كل واحد محاسبا عن كل مسؤولية يرتبط بها وعن نجاحه في القيام بها أو إخفاقه فيها من قبل أطراف أخرى، فالمسؤولية أمانة، وعدم تأديتها والقيام بها حق القيام خيانة، وهي يوم القيامة خزي وندامة. والمقصود هنا بالذات المسؤولية ضمن إطارها العام، والتي تشمل مختلف المجالات المرتبطة بحياة الإنسان، فهي التي تعطيه القدرة على تحمل نتائج وعواقب كل ما يصدر عنه من أفعال وتصرفات، فالمسؤولية بالأساس نابعة من ضمير الإنسان، ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالسمو الإنساني والارتقاء الأخلاقي.

ومن هذا المنطلق سيتم تسليط الضوء على بعض أبرز الجوانب المتعلقة بقيمة الحس بالمسؤولية وجودا وعدما، فللمسؤولية أهمية كبيرة جدا لا على المستوى الفردي أو الجماعي، لأنها تعد لبنة أساسية لبناء الأمة الناهضة، وبطبيعة الحال فأغلب المسؤوليات ينص القانون على متابعتها ويحرص على مراقبة أدائها. لكن ما جدوى وجود القانون من دون تنفيذه وتزيل مقتضياته؟ وكيف يساهم ذلك في تشرب الفوضى وعدم الشعور بالمسؤولية؟ بالخصوص حين نتحدث عن المحاسبة في غياب الرقابة والمسائلة في الواقع العملي؛ مما يؤدي إلى شيوع الإهمال وانتشار الفساد على نطاق واسع.

 

رقي المجتمعات لا تتم بمنأى عن تشجع الإنسان على الالتزام بمسؤوليته بدون تهرب ولا ضياع لحقوق الآخرين، لذا لا يمكن تعليل السلوك الرديء إلا بخلل قيمي عميق

وما نراه اليوم من وقائع كثيرة لمن بين ما يؤكد شيوع ثقافة الفوضى واللامبالاة إلى درجة مثيرة للتقزز، ومن المؤسف أن نضطر إلى الحديث عن هذه السلوكيات التي ينبغي أن تكون متجاوزة في العالم الإسلامي، ولكوننا نعيش في عصر تفضلت فيه غيرنا من الأمم غير المسلمة علينا درجات مذهلة في الجانب الأخلاقي الذي ينبغي أن نكون نحن من نتسيد فيه أكثر من أي جانب آخر.

 
ومن بين أهم الأمور التي ساهمت بشكل كبير في انتشار ثقافة اللامبالاة وعدم الاستشعار بالمسؤولية: جعل الاستمتاع اللحظي أهم شيء، وليكن ما يكون بعد ذلك بدون إعطاء أدنى اعتبار لمشاعر الآخرين وأحاسيسهم وما يضرهم أو ينفعهم، فيفترض المرء أنه لا حسيب له، وهذا ما يتنافى بالمطلق مع الجانب الأخلاقي الذي يكرسه الدين الإسلامي في التعامل مع المسؤولية بالذات. وطغيان مثل هذه التصرفات على السلوك الإنساني من بين أخطر ما يمكنه أن يقوض بنيان العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية، ومما لا يزيد إلا من زرع الحقد والضغائن في النفوس، وهذا مثال فاقع الدلالة على أن الخلل الحاصل ذاتي قبل أن يكون له دوافع خارجية أو أن يكون من سلطة فوقية.

 
وكلما كان للإنسان هوية مستقلة إلا وكان أكثر التزاما بمسؤولياته، لأنه يصير غير مهتم ولا مبال بسخط الآخرين أو رضاهم عنه مادام أنه ملتزم بمسؤولياته ويؤديها بالشكل الذي ينبغي أن يكون، مما يعني بشكل غير مباشر أن تصرفاته موافقة ومنسجمة مع القيم الإسلامية، ولعل الراجح في أن المشكلة ناجمة أيضا عن الاهتزاز القيمي الذي أصاب الإنسان في العالم الإسلامي، والذي بفعله أصبح غير قادر على إصدار ولو قرار بسيط يتحمل فيه كامل مسؤولياته بدون تدخل لأية جهة أخرى، وعدم اتخاذ مثل هذه القرارات كسلوك عملي يعني بالأساس عدم امتلاك الاستقلالية الذاتية والعزيمة القوية لتطبيق القرارات الشخصية وجعلها أمرا واقعا. ولا يمكن الرفع من الحس بالمسؤولية وإحياء الضمائر من دون القيام بالتوعية على أتم وجه، وهذا ما ليس بارزا في وسائل إعلامنا بل هو مما غيب في هذا الميدان بشكل مقصود، وبالخصوص الجانب المتعلق بإعداد مواد إعلامية تثقيفية لحث الناس على الارتقاء بسلوكهم اتجاه مسؤولياتهم وبيان الضرر الناجم عن الإخلال بها.

 

ورقي المجتمعات لا تتم بمنأى عن تشجع الإنسان على الالتزام بمسؤوليته بدون تهرب ولا ضياع لحقوق الآخرين، لذا لا يمكن تعليل السلوك الرديء إلا بخلل قيمي عميق والذي به لم يعد يشعر المسلم معه بعظم المسؤولية تجاه ربه ونفسه وغيره. ولا يتحمل أحد عواقب تحملك لمسؤولية أنت أردتها وأخذتها عن طيب خاطر، سواء كنت أهلا لها أو لست ممن يستحقون توليها، فلا أحد مسؤولا عن عبثك وفسادك وظلمك لمن أنت عنهم مسؤول.

   

للمسؤول الذي لم يراع حق تلك المسؤوليات ولم يجتهد ويصبر في حمل ما حمل: ألا تدري أنه لن تزول قدماك يوم القيامة حتى تسأل عن مسؤولياتك كلها؟
للمسؤول الذي لم يراع حق تلك المسؤوليات ولم يجتهد ويصبر في حمل ما حمل: ألا تدري أنه لن تزول قدماك يوم القيامة حتى تسأل عن مسؤولياتك كلها؟
  

وإن فررت من المحاسبة عن عدم قيامك بمسؤولياتك كما ينبغي في الدنيا، فلا ملاذ لك ولا منجى من المحاسبة يوم القيامة مما يعني أنه لن تشفع لك لا تبريراتك الواهية ولا أعذارك المختلقة. تذكر دائما أنه لن يقف أحد مهما كان خارج دائرة المحاسبة يوم الحساب، والوقوف سيطول في ذلك اليوم كلما كبرت مساحة المسؤولية وزاد حجم الأمانة.

 
الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم التي لها قوانينها وأعرافها الخاصة، وهذا مما لا يقبل العيب، ولكن الشيء الذي يعاب كثيرا يكمن في عدم محاسبة المسؤولين بعد اكتشاف إخلالهم بمقتضيات مسؤولياتهم بالرغم من وجود النصوص القانونية التي تربط تلك المسؤوليات بالمحاسبة، مما يعني أنه إن تم الخرق بها في أرض الواقع لا يتم تنفيذ ما ينص عليه القانون على هؤلاء المسؤولين، وأقصى ما يتم القيام به هو عزلهم مع بقاء امتيازاتهم وتعويضاتهم، وهذا ما يؤكد عدم دفعهم ثمن ما قاموا به من عبث في مسؤولياتهم. ومما ينبغي التأكيد عليه أن أخطر الأزمات التي تعيشها معظم البلاد الإسلامية راجعة لغياب الحس بالمسؤولية الناتج عن غياب الضمير، وعدم تحمل عبء المسؤولية على الوجه المطلوب، وكذلك بوجود المسؤول غير المناسب في المكان الذي لا ينبغي أن يكون فيه إطلاقا، وانعدام المسائلة والمحاسبة عن التقصير وإهمال المسؤولية الموكلة على من هو موكل بها.

 
وكل ما قيل ليس أبدا من باب الحكم بالشر على الإنسان المسلم، فالخير لا ينقطع من الأمة الإسلامية التي فيها أيضا أهل الحق والرشاد، وهذا ما يؤكد على استمرارية تواجد هذه الخيرية، ولكن هذا مجرد حديث نبتغي به أن نضع الأصبع على موضع الخلل لنعرف جيدا بواعثه لكي يعالج، وأن نتجنب تكرار حدوثه مرة أخرى، وهو اعتراف أيضا بأن الكمال ليس إلا للخالق سبحانه، وأن هذا الخلل من سنن البشرية، وأن باب الإصلاح والتغيير الإيجابي مفتوح دائما لكل مذنب مخطئ في حق ربه وفي حق نفسه وفي حق الآخرين.

 
وفي الأخير دعوني بكل شفافية ووضوح أن أوجه هذه الأسئلة لكل مسؤول أيا كان ومهما كان حجم مسؤولياته، للمسؤول الذي لم يراع حق تلك المسؤوليات ولم يجتهد ويصبر في حمل ما حمل: ألا تدري أنه لن تزول قدماك يوم القيامة حتى تسأل عن مسؤولياتك كلها؟ لِمَ لا تحرص على ألا تنتهك حقوق غيرك وأن تمتنع عن تجاوز حدود مسؤوليتك؟ ألا تستشعر بمراقبة ربك لك؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.