شعار قسم مدونات

لماذا يراودنا شعور الاستغناء عن الله؟

مدونات - رجل يمشي ضباب

عندما كان يستعصي على الإنسان تفسير الظواهر الطبيعية، والتي كان يقف بإزائها حائرا لا يستطيع أن يدافعها عنه، ولا أن يحتمي من خطرها، وقتها اختلق فكرة الإله حتى يتخذه ملجأ وملاذا عندما يعجز عن مدافعة أي مكروه يصيبه، ولذلك ربما فكرة الله موجودة في عقولنا وليست في الواقع.. هذه أطروحة قديمة، أعادها بعض المتفلسفين عندما احتاجوا إليها من أجل تبرير معتقداتهم وأفكارهم والدفاع عنها، لكن هل يعني ذلك أن هذا النمط من الاعتقاد غير سائد الآن، ربما لا نكون مبالغين إن قلنا أنه غدا الآن أكثر انتشارا لكنه بصورة جديدة مخالفة لتلك تماما، في الشكل لكن على مستوى المضمون فهما يؤديان إلى نفس المقصد، فكم مرة داهم أحدنا ذاك الشعور أو الإحساس "بالاستغناء عن الله"، حشاه سبحانه وتعالى، كلمة نجد صعوبة في تقبلها ربما، لكن ماذا لو نظرنا لأنفسنا وتأملنا أحوالنا ألا نجد أن ذاك هو واقعنا، سواء كان بوعي منا أو عن غير وعي.

  
بدون أن نتحدث عن أركان الإسلام ومدا امتثالنا لها، فذلك غدا روتنا يتقنه كل واحد منا اليوم، بل سنتحدث عن أحد الأمور المهمة وهي ربما التي تعكس مدا فشو هذه الآفة، وهو أمر الدعاء والالتجاء إلى الله، إننا لا ندعوه سبحانه وتعالى إلا وقت الحاجة والشدة، فإذا ما فرج كربنا وهمنا، ورزقنا السكينة غدونا أشبه بأولئك الذين وصفهم تعالى بقوله: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ"، أليس هذا واقع أكثرنا اليوم، عندما تنكسر نفوسنا وتعوزنا الحاجة، نتذلل ونخضع، ونتودد إلى الله سبحانه وتعالى، بغية أن يذهب عنا ما يصيبنا، وأما عندما نستغني فإننا نستعلي عن طلبه سبحانه وتعالى أو نتجاهل أن هناك ربا رحيما جبارا قويا، يجب أن ندعوه ونطلبه في المنشط والمكره.

 

شعور الاستغناء عن الله حقيقة لا يأتينا ربما إلا من أحد أمرين: إما بسبب الغفلة عن الله التي تصيبنا بسبب البعد عنه، وإما بسبب جهلنا بالله سبحانه وتعالى

الإحساس بالاستغناء عن الله، قد يراود حتى أولئك الذين يبالغون في العبادة، بل وهؤلاء إن لم تكن عبادتهم قائمة على العلم به، يكونون أكثر عرضة لهذا الأمر، حيث كلما ازدادت عبادته، يغدو شعوره يزداد بكونه أشبه بملاك منزه منه بإنسان، وأنه ما دام لا يعصيه فهو في غنى عنه، وربما هنا نستحضر الدعاء المشهور الذي ينسب لرابعة العدوية "اللهم إن كنت أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بنار جهنم وإذا كنت أعبدك طمعا في جنتك فاصرفني منها.. أما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني من رؤية وجهك الكريم".
   

عبادة الله يجب أن تقوم على الرغبة والرهبة، فمهما وصل بنا اليأس والقنوط من دنوبنا يجب أن نبقا راغبين وطامعين في رحمة الله، ومهما قوي إيماننا وتحسنت علاقتنا به سبحانه وتعالى يجب أن يحضرنا رهبة لقائه، ولا يغيب عن أذهاننا مشاهد ذاك اليوم العظيم، فالعبد يطير إلى ربه بجناحي الخوف والرجاء، وبجناحي الرغبة والرهبة والبشارة والنذارة.. بتعبير أحد العلماء.

 

لكن شعور الاستغناء عن الله حقيقة لا يأتينا ربما إلا من أحد أمرين: إما بسبب الغفلة عن الله التي تصيبنا بسبب البعد عنه، وهذا هو الأكثر غالبا؛ وإما بسبب جهلنا بالله سبحانه وتعالى، فإن الجهل بالله سبحانه وتعالى قد يورث في نفس الإنسان شعورا بالاستغناء عنه، ربما لهذا السبب كان العلم بالله سابق على عبادته والتقرب إليه، فأمر القراءة ورد في أول سورة وهو قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، قبل ورود أمر السجود والتقرب إليه الذي ورد في نفس السورة وهو قوله تعالى:" واسجد واقترب". وما ذاك إلا للتنبيه على أهمية العلم والتعلم قبل العبادة، لما يعلمه سبحانه وتعالى من أن الشيطان سيوسوس لعباده، وخاصة الجهلة منهم، حتى يغدوا حالهم ربما، أشبه بقصة ذاك الزاهد الذي رمى نفسه من صومعة الجامع بعدما وسوس له الشيطان أنه أصبح ملاكا ويستطيع أن يطير بسبب زهده وعبادته فحاول أن يجرب هل فعلا يستطيع أن يطير!

   

يجب علينا أن نظل دائمي التيقظ، ولا يجب أن نغفل حتى تداهمنا مصيبة، وقتها نفر إلى الله
يجب علينا أن نظل دائمي التيقظ، ولا يجب أن نغفل حتى تداهمنا مصيبة، وقتها نفر إلى الله
   

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم مائة مرة، وهو الذي تفطرت قدماه من القيام، وقد ضمنت له الجنة، لكنه كان يردد أفلا أكون عبدا شكورا، وما هذا إلا تعبير منه صلى الله عليه وسلم عن شدة حاجته لله وعدم استطاعته الاستغناء عنه، وتعليم لعباده على أن يقتفوا أثره، وأن لا يغتروا بعبادتهم ولا أعمالهم. أما القرآن فآياته لا تعد في هذا المجال مثل قوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" فنحن فقراء مهما ملكنا، ومهما ارتقينا في عبادتنا، غير أنه يجب أن ندرك أننا كلما افتقرنا إلى الله كلما ازداد استغناؤنا عن العباد، والدين كله قائم على معنى الخضوع والتذلل لله سبحانه وتعالى، فأحد معاني دان في اللغة تأتي بمعنى خضع، كما أن العبادة معناها التذلل لله والخضوع له على وجه تعظيمه، فالعبادة يجب أن تزيدنا خضوعا لله وليس تعاليا واستغناء عنه.

  
ربما قد لا ندر عندما يتسرب ذاك الإحساس بالاستغناء عن الله إلى نفوسنا، غير أن ذلك ينعكس على سلوكياتنا، فيجب علينا أن نظل دائمي التيقظ، ولا يجب أن نغفل حتى تداهمنا مصيبة، وقتها نفر إلى الله، معرفتنا بالله واستشعارنا بقربه هو الذي يجعلنا نظل مستشعرين مراقبته لنا في سرائنا وضرائنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.