شعار قسم مدونات

هل أصبحنا بحاجة لتغيير مناهجنا الدراسية؟

blogs تعليم

"أعتقد أن مصر لو حكمها "آليون" لن يحدثوا بمدارسها مثل ما يحدثه بنو الأرض اليوم" قيل للمهلب بن أبي صفرة الأزدي: ما لنا نراك قد أدركت ما لم يدركه غيرك مع أن غيرك يعلم مثلما تعلم؟! ماذا قال المهلب في جواب أولئك الذين سألوه فقالوا له: إننا نعلم كثيرين قد حملوا من العلم مثلما حملت، ولكن إدراكهم وإفادتهم في هذا العلم ليست مثلما عندك، فقال لهم المهلب: "ذاك علم حمل وهذا علم استعمل".

مفادًا إلى أن العلم الذي يُحمَل لا يفيد وإنما يزيد نسخًا من كتب وتلاميذ ذلك العلم في البلاد التي يوجد فيها ذلك الإنسان، وإنما ذلك العلم ما هو إلا آتٍ عن تلقين دون ممارسة، فلا يسير دون الألواح والدُسر، بل وسموه في زمننا مدرسًا، وإنما هو في الحقيقة دون تبصر فيقَّوم به اعوجاج نفسه ولا تبصير فينفع الآخرين بحقيقة علمه.

 

أما النوع الآخر وهو على عكس المشهود، أو ربما نقول أنه بمثابة العملة النادرة، وهو العلم المُستعمَل، هو المستفاد منه بالتبصر والتبصير. هذا هو كل العلم وهذا ما أشار إليه (الإمام الغزالي) في كتبِه الذي مرَّ شوطًا طويلًا في مجالات التعليم والتعلم وأصول التعليم والتعلم التي كانت ولا زالت منهاجًا لمن يطرق هذه المواضيع.

فتاةُ الراديو:

في مرحلةِ تعليمِها منذُ سنواتٍ لمْ يستوقفني في تِلك الفتاةِ موهبتُها الجمَّةُ في الشعرِ والقصيدِ والنثرِ والخطابةِ أيضًا أو على الأقلِ أنْ ينوبَني مِن ذلك اهتمامٌ مثلما كان يستوقفُني جِيدُها في الحفظِ وسرعةُ كلامِها التي كانت أشبهُ بسرعةِ سيارةٍ ألمانيةٍ يقودُهَا شابٌ سعوديٌ على مِضمارِ سباقِ (فورميلا)، لا أحدًا يستطيعُ أن يستوعبَ كلامًا بهذه السرعةِ ما لمْ يُرزقْ موهبةً عظيمة.. هكذا كنتُ أتناولُ وأصدقائي (نُمُوَّ موهبتِها)، ولم يستحضرني قط حديثُ ابن أبي صُفرة، ولم أفكرْ في أن هذا ربما يكون ناتجًا عن أسلوبِ ومنهجيةِ هذا المعلمِ التي لطالما مكثت في بلدٍ زادتها نسخًا منه.

المقررات إسقاطاتٌ للمنهج:
صرنا في تعداد الأمراض ليس فقط أمراض التعليم، بل أمراض الأخلاق التي أدت بنا لهذه الصورة؛ نتيجة مخالفة تلك القوة التي وضعها الله فينا

منذ أيام كانت تستضيف الإعلامية "منى الشاذلي" أوائلَ الثانوية العامة، وإذ تسألهم عن ما يتمنونه وعن العراقيل التي واجهوا في دراستهم، فقال أحدهم: لا أعرف لماذا نحفظ التعليقَ والنصوصَ مثلا! واتبع ذلك.. هل ذلك فضلا عن أن يوسعوا مداركنا بمزيدٍ من البلاغةِ والنحوِ والصرف! ولعلني أريدُ أن أقولَ لك: نحن نتعاملُ مع مقرراتٍ لا منهجا، والفارقُ كبيرٌ حدِ السمواتِ والأرض، فمثلًا؛ لابد أن يقرأَ المتعلمُ تأهبًا لتوسيعِ أفقِه وملءِ أرففِ مكتبتِه العقلية، ويقتبسُ نورًا لحياتِه العمليةِ فيما بعد.

 

لذلك فمن المعروف في 28 دولةٍ حولَ العالمِ أن يكونَ مِن المُقررِ على الطالب بعضٌ مِن الكتبِ التكميلية؛ لتعينه على ذلك. فعلى سبيلِ المثالِ لا الحصر: في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ يُطلَبُ مِن جميعِ الطلابِ قراءةُ رواية (أن تقتلَ عصفورًا محاكيًا)، تلك الروايةُ الكلاسيكيةُ تجمعُ بينَ قصةِ نضوجٍ مؤثرةٍ وعاطفيةٍ وفكاهيةٍ وبينَ موضوعاتٍ جادة؛ كالتفرقةِ العنصريةِ والمحاكماتِ الجنائية.

 

قراءةُ الروايةِ تعدُ جزءًا مكملًا للتجربةِ التعليميةِ الأمريكية؛ لدرجة أن أصدقائنا القائمينَ على موقعِ (TED) تساءلوا: ما هي الكتبُ الكلاسيكية التي يقرأُها الطلابُ في البلادِ حول العالم؟! فمِن مصر أخبركم أنّا كنا ندرس (كتاب الأيام) الذي يعد سيرةً ذاتيةً لصاحبِه الكاتب المفكر (طه حسين) الذي عاش في الفترة ما بين 1889 إلى 1973، فقدَ بصرَه في عمرِ الثالثة، لكنه نجحَ في أن يصبحَ وزيرًا للتعليمِ في مصر، ولكن هنا.. تمهلوا قليلًا يا أصدقائي في (TED)؛ لم يكن على زملائي الذين يرافقونني يوم أن كنت في الثانوية العامة إلا أن يتساءلون بعضهم البعض فيما بينهم في عُجابٍ شديدٍ ذلك السؤال؛ وهو لماذا تُدَرَّس هذه القصة!؟ أقول لكم: إن الكتابَ يعلمُ الطلابَ أهميةَ تحصيلِ العلم، والحاجةَ للتمردِّ على التقاليدَ والآثارِ السلبيةِ للجهلِ على الأفراد في المجتمع.

امتيازات المُعلمِ الغائبة:

لعل السؤال يطرح نفسه؛ لِمَ لَمْ تأتِ تساؤلات أصدقائي إلا فيما بينهم، بل ولمْ يوجه أحدُهم سؤاله ذاك لمعلمِه؟ وأيضا لعل الإجابة في امتيازاتِ المعلمِ الغائبة؛ فكما لو كان أصحابُ المنهجِ أوقفوهم عندَ ذاك الحدِ فتربت نفوسَهم وترعرت على ذلك؛ أي أنهم لا يجدون في المقامِ الأولِ أنفسَهم أولادَ المُعلمِ، أولادًا روحيين له، كما كتبَ في ذلك فقهاءٌ وعلماءٌ ومنهم محدثون، وأشير أيضًا إلى ما كتبه حجةُ الإسلامِ (الإمام الغزالي) رحمه الله حينما أوسع القولَ في كتابِه (إحياء علوم الدين) عن أخلاق العالمِ والمتعلمِ، وكتبَ رسالتَه الشهيرة التي أسماها (أيها الولدُ)، ووجهها لطالبِ العلم، ولكن لا يستدعيني أن أطيل فيها، فالإشارة من خلالِ حديثِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها الكفاية، لقوله: "إنما أنا لكم بمنزلةِ الوالدِ أُعلمُكم". ها هي الشفقةُ على متعلمي العلمِ منه، فهو يعتبرُ أن مهمةَ التعليمِ رعايةٌ والدية، ولادةٌ روحية. فالآن الآن.. (تِبْنٌ على المَاءِ مَا قالت مدارسُنَا وَكُلُ مَنْ علَمُونَا كُلهم كذَبُوا).

لمستُ في نفسي زيغًا بعدَ ما دونت ذات مرةٍ على إحدى صفحاتِ التواصل الاجتماعي تدوينة كِدتُ أن أكتب فيها: (أنا لا أخضعُ لمعظمِ مَن تسمونَهم معلمين كونِهم معلمين)؛ في الحقيقة هذه الكلمات البسيطة نبعتَ من أعماق قلبي رغم أنها جاءت مخالفةً تمامًا لأخلاقياتِ المتعلم، ليس فقط وإن كانت من منطق أن كوني طالب بعدَ أن وجدَ أن التعليمَ أصبح أمرًا تقليديًا حينها تخفت عليه الواجباتُ وقدسيةُ العلمِ والتعلم، ولكنها جاءت لِما يستعمله المعلمُ تجاهَ المتعلمِ مِن أساليبٍ لا تفيده تمامًا.

المقررات خطوط إنتاج:

ما سبق هو واحدٌ مِن أهم الأسبابِ التي أسقطت من المقرراتِ المنهجَية، لتصبحَ بذلك ما هي إلا خطوطَ إنتاج، لم أستشعرْ في حياتِي طيلةَ دراستِي منذُ الابتدائيةِ إلى الثانويةِ مرورًا بالإعداديةِ ما أقول، ولكنني حينما توجهتُ للجامعةِ واستكملتُ فيها مراحلَ تعلُّمِي لم أتحملْ تلك الظلماتِ ولا هذا العناءَ، إلى أن عاهدتَ نفسي أن أبذلَ ما بوسعي لله، ولأبنائِي الذين سيتوالون، ولأصدقائِي الذين لطالما اجتهدتُ في ذلك إلى أن يوسعَ اللهُ لهم مِن رحماته..

 

هذا المعلمُ ألا آنَ أن نعقد معه صلحًا؛ فهو راجع نفسَه وهَمَّ بصلاحِها، سيعطي أكثرَ مِمَا يأخذ، بل سيعطي دونَ أن ينتظِرَ أن يأخذ، ومِن صلاحِ نفسِه وعلمِه سيعلمُكم أن عطاءَه يكونُ أجلَ وأعظمَ بكثيرٍ مِمَا يأخذ
هذا المعلمُ ألا آنَ أن نعقد معه صلحًا؛ فهو راجع نفسَه وهَمَّ بصلاحِها، سيعطي أكثرَ مِمَا يأخذ، بل سيعطي دونَ أن ينتظِرَ أن يأخذ، ومِن صلاحِ نفسِه وعلمِه سيعلمُكم أن عطاءَه يكونُ أجلَ وأعظمَ بكثيرٍ مِمَا يأخذ
 

إلى أولئِك الذين أصبحوا مجردَ سلعةٍ كسائرِ المنتجات، فجُعِلَ لهم خطُ إنتاجٍ يمتدُ مِن الابتدائية إلى الجامعةِ مرورًا بالإعداديةِ والثانوية؛ فإن كانت علبةُ التونةِ تحتاجُ إلى مراحلَ إنتاجٍ، فإن كثيرًا من الطلابِ يحتاجُ –في نظرِ التعليمِ الحالي– إلى مراحل لا تختلف أبدًا عن سائر البشر، وبطريقة أخرى فهذا يشبه صرف دواء موحد لمرضى السكري والسرطان وما خطر على بالكم من الأمراض، إلى أن صرنا في تعداد الأمراض ليس فقط أمراض التعليم، بل أمراض الأخلاق التي أدت بنا لهذه الصورة؛ نتيجة مخالفة تلك القوة التي وضعها الله فينا، وما إن صاحوا هؤلاء الضحايا، فكأنما تعليقاتهم صادرة عن روبوتات، ليس وكأنهم شباب أنهكتهم مؤسساتهم التعليمية وغرروا بسرابٍ كاذبٍ فحسبوه ماءً حتى إذ جاءوه لم يجدوا شيئًا.

صديقي المُعلِم ليس بالعزيز:

أنتَ تعلمُ وليسَ بجديدٍ، لأن ألواحكَ ودُسركَ محمولة؛ فتعلمُ أن مِن واجباتِك كمعلم أن يكونَ فيكَ جانبٌ من التطوعِ والتبرع، وتعلمُ أيضًا وليس بجيد أن مِن العلماءِ قديمًا من كانوا يحضون على تعليمِ العلمِ وإغناءِ الناسِ به وإرشادِهم دونَ أجرٍ ودونَ حسبة، كذلك تعلمُ -وليسَ بجيدٍ- أن جزاءَ مَن دعَا إلى هدى كان لهُ مِن الأجرِ مِثلَ أُجورِ مَن تبِعه.

 

وفي المقابل فأنا طالب الثانوية الذي يعلمُ جيدًا أنه لا يصلحُ أمرُ الناسِ إلا بترتيبِ ما يجعلُ لك كفايتَك، فيُفرَغُ قلبُك وتُستعَدُ نُفوسُك. لذا؛ فيا صديقتي هذا المعلمُ ألا آنَ أن تعقدينَ معه صلحًا؛ فهو راجع نفسَه وهَمَّ بصلاحِها، سيعطي أكثرَ مِمَا يأخذ، بل سيعطي دونَ أن ينتظِرَ أن يأخذ، ومِن صلاحِ نفسِه وعلمِه سيعلمُكم أن عطاءَه يكونُ أجلَ وأعظمَ بكثيرٍ مِمَا يأخذ، وسيعلمُ جيدًا أيضًا ما جاء في الأثرِ من سنةِ الحبيبِ في قوله: (علموا الناس على قدر عقولهم، أتحبون أن يُكذَّبَ اللهُ ورسولُه).

فيا صديقتي نأملُ -نحن- ألا يكونَ خطابُنا القادمُ لأختكِ كفيلةِ التضامنِ الاجتماعي بأن تنظر لأمرِه بجدية. أما معلمي في الجامعةِ المصريةِ، فأظنُ أن الأمرَ ليسَ بيسيرٍ، وأنه -فقط- لو علم أن المرءَ عدوُ ما جهل، وأنه ما إن أدركْ شيئًا فقد فاتته أشياء، وإن مِن حقِ العلمِ عليهِ ألا يغضُ مِن شأنِ متعلميه، ولا مِن علم الآخر، بل يدعُ الفرصةَ للآخرين ليجدوا موطأةً أمامَهم، ولا يبثْ في نفوسِ هؤلاء الطلابِ مِن أمامِه وحشةً مِن علم يلقنهم إياه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.