شعار قسم مدونات

عهد والكرامة والشعب العنيد..

blogs - عهد التميميذ

غطّينا خروج عهد التميمي من السجن ككثيرٍ من القنوات العربية والعالمية كحدثٍ عالمي. شاهدتها وهي تلقي المؤتمر الصحفي ثمّ في مقابلة مع زميلتي نجوان سمري وصفتها فيها بأنها أيقونة فلسطين، رمزاً للقضية. تحدّثت عهد عن أسيرات يواجهن عقوبات اشدّ منها، تحدّثت عن قضية مغدورة، تحدّثت عن أحلامٍ تشبه واقعها بدراسة القانون كي تدافع عن أسرى وعن أرض. ودمعت عيوني فخراً بطفولة لن تتنازل عن فلسطين، وحزناً على طفولة كبرت قبل أوانها.

 

أنهيت دوامي وعدت إلى منزلي معتقدةً أن الفرحة كانت عامة في العالم العربي بخروج عهد، والفخر واحداً. ثم فتحت مواقع التواصل الاجتماعي واكتشفت سيلاً من الانتقادات لعهد ولكلّ من هلّل لخروجها. وجدت سؤالاً من صديق فلسطيني يسألني فيها لماذا كلّ هذا التضخيم الإعلامي، وهل تستحقّ هذه الألقاب في ظلّ وجود أسيرات وناشطات قدّموا أكثر منها بكثير؟

 

الأشخاص يتحوّلون إلى رموز أو أبطال عبر طريقتين: صناعة ممنهجة أو الصدفة البحتة. الصناعة الممنهجة تعتمد على شركات علاقات عامة وشبكة اتصالات ومهارات في التسويق والترويج وخلق الانطباعات، وهو أمرٌ للأسف لا نتقنه كعرب. أمثالنا يعتمدون بشكلٍ كلّي على الصدفة البحتة والتي لا تخلو من المنهجية وإن كانت غالباً تأتي من جهة سيكولوجيا المتلقّي والمتلقّف.

 

ما الذي جرى في حالة عهد ولماذا تحوّلت إلى رمز؟ فيما يلي تحليلي الشخصي، النابع من مشاهدتي الشخصية، خبرتي المهنية، وما تعلّمته أكاديمياً عن الإعلام واستراتيجيات صناعة الرأي العام. لكن يبقى مجرّد تحليل لا أكثر، أتحمّل مسؤوليته وحدي.

 

قصة عهد لو كانت قبل عامين مثلاً لم تكن لتحصل على هذا الاهتمام. لكن شاءت الصدف أنّها وقعت في وقت كانت أعين الصحافة العالمية مفتوحة فيها على الفلسطينيين

أولى ركائز التعاطف مع عهد هو شكلها، شئنا أم أبينا. فنظرية التعاطف لدى الرأي العام تقوم على القرب: كلّما كان الحدث أو الضحية تشبهك كلّما تعاطفت معها أكثر. إذا كنت عربياً ووقع تفجيرٌ في بلد عربي أوقع خمسين قتيلاً ووقع في الوقت نفسه تفجير في أمريكا اللاتينية مثلاً أوقع نفس عدد الضحايا، ستهتمّ تلقائياً بالتفجير الذي في البلد العربي وستتعاطف مع ضحاياه وعلى الأرجح سيمرّ الأسبوع دون أن تنتبه أساساً لوقوع التفجير الثاني. إذا اختطف عربي وفرنسي وروسي وصيني في كمبوديا، ستجد نفسك تفكّر بالعربي أولاً ثم ستبني اهتمامك بمواطني الدول الأخرى على حسب مواقفك السياسية أو معرفتك بها أو انطباعاتك عنها، وقد لا تهتم.

 

عهد بشعرها الأشقر وعيونها الملونة تشبه الأوروبيين، لذلك عندما قدّمتها الصحافة الغربية لقرائها ومتابعيها لفتت نظراً أكثر من غيرها من الفلسطينيين.

 

العامل الثاني هو حجم الفعل مقارنة مع ردّ الفعل. وهنا يجب فهم الأمر من السيكولوجيا الغربية وليس من سيكولوجيا الفلسطيني الغاضب لأرضه المستعدّ للمقاومة بكلّ أشكالها. فبالنسبة لكثير من الفلسطينيين، صفعة عهد للجندي ليس عملاً بطولياً صعباً. لكن تحديداً "بساطة" هذا الفعل هو ما أكسبها التعاطف الغربي. فهي لم تكن تقوم بأي عمل "عنيف" من الأعمال التي يسوّق لها الإسرائيليون في الغرب على أنّها إرهاب وليست مقاومة. ولم تصفع جندياً على حاجز تفتيشه، أي سيكولوجياً لم تكن معتدية عليه. هي ببساطة صفعت جندياً دخل بيتها.

 

عندما تحدّث مواطن دولة عظمى لم تكن يوماً محتلّة عن الاحتلال والأرض، غالباً لن يفهمك. فهو لم يُضطر يوماً للتفكير بالحدود والأرض كجزء راسخٍ من وطنيته. بل تراه غالباً يفكّر باللغة وبانتشار نفوذ بلاده دولياً. لكن عندما تحدّثه عن معتدٍ دخل بيتك، يمكنه بسهولة أن يتخيّل نفسه ببيته وردّة فعله. أن تُعاقب صفعة بثمانية أشهر حبس لقاصر، عقوبة أكبر بكبير مما يمكن تفهّمه لمواطني دول لا ترى جيشها بشكل حاضر على أرضها وفي يومياتها، وبالتالي ليست لدى الجيش هذه الهيبة التي نراها في الدول المعسكرة.

 

العامل الثالث هو طبعاً التوقيت. فقصة عهد لو كانت قبل عامين مثلاً لم تكن لتحصل على هذا الاهتمام. لكن شاءت الصدف أنّها وقعت في وقت كانت أعين الصحافة العالمية مفتوحة فيها على الفلسطينيين لرصد ردود الأفعال على قرار ترمب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل. ولأن القرار لم يلقَ شعبية في الرأي العام الغربي، كانت الصحافة الغربية منفتحة قليلاً على التعاطف مع الفلسطينيين. وما حدث هو تلقّف لقصة عهد لدى الرأي العام الغربي، الذي تفاعل مع قصتها واهتمّ بمتابعتها ففرض على إدارات التحرير أيضاً متابعتها.

   

  

التغطية الإعلامية ليست دائماً قراراً إدارياً منفرداً من الوسيلة الإعلامية. فعندما تطرح الصحافة الخبر، إذا كان تفاعل الرأي العام معه أكبر بكثير من التفاعل المعتاد، اتّجهت الوسائل الإعلامية إلى متابعته أكثر لتلبية حشرية متابعيها. وكلّما اُجبرت وسائل إعلام أخرى على مواكبة الخبر الذي يتحوّل إلى حدث إعلامي.

  

وعامل المتلقّي أساسي جداً فهو غالباً ما يُفشل الصناعة الممنهجة للرموز أو ينجحها. عندما بدأ التفاعل مع عهد عالمياً، حاولت الكثير من المواقع الفلسطينية صناعة رموز أخرى من أسيرات وشهيدات مثل غسراء الجعابيص ورزان نجار. لكن لم يكن التلقّف بحجم قصة عهد، لأسباب كثيرة. يمكن أن يكون التوقيت حينها مثقلاً بأحداث أخرى تعتّم عليهم، أو يمكن أن يكون عامل الشعور بالقرب من الرمز نفسه غير موجود. وفي جميع الأحوال، مخيلة الناس لا تتّسع لأكثر من بطل، لذلك لم تنجح أفلام "مارفيل" الهوليوودية التي جمعت الأبطال الخارقين كما نجحت الأفلام عن كل بطل خارق بشكل منفرد. 

  

بهذه البساطة المعقّدة تُصنع الرموز أحياناً. تتراصف الظروف ويولد بطلٌ. إذا تمحّصنا بكلّ قصة بطولة عبر التاريخ، وسألنا أنفسنا هل كان وحده البطل؟ ما كان دور من ساعدوه؟ ألم يكن هناك من هو أبسل منه وأكثر شجاعة لكننا لم نعرف عنه؟ الإجابات عن هذه الأسئلة تسقط البطولة عن الكثيرين. لكن هكذا هي تركيبة النفس البشرية، لا تستطيع أن ترى البطولة في الجموع، تحتاج لقصة شخص واحد تتفاعل معه بأي طريقة يحلو لها، تفخر به أو ترى نفسها فيه أو تحلم أن تكون مثله أو تأمل أن يأتي مثله لينقذها.

 

هل تستحق عهد دون غيرها؟ رأيي الشخصي أن أغلب الفلسطينيين أبطال. فمجرّد التمسّك بالحقّ في زمن الغدر والاستقواء والتكالب عليهم بطولة. التمسّك بالأمل بطولة. الحلم بطولة. فما بالك بأشكال المقاومة على أنواعها.

 

لكن ما الذي سيستفيده الفلسطينيون من الانقسام حول عهد؟ ومن تجريدها الألقاب التي مُنِحت لها؟ هل تخسر القضية الفلسطينية من المنابر التي ستُتفتح في الغرب لعهد لتخبر رأياً عاماً اعتاد أغلب الوقت على سماع وجهة النظر الإسرائيلية؟ أم تكسب؟

 

لو لم تكن عهد عربية، لوجدت مجتمعها يقف خلفها يداً واحدة بغضّ النظر عن رأيه الشخصي فيها أو بأحقيتها بالدور أو بمواقفها الأخرى أو مواقف والدها. لكنّنا أساساً لا نجيد الفصل في المواقف والمصالح، لا نرى إلا الأبيض والأسود، ولا نجيد فنّ السياسة الرمادية.

شعوب عنيدة، نُستفزّ بالأوقات الخطأ والأماكن الخطأ، لكرامتنا المنتهكة في مكان آخر. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.