شعار قسم مدونات

لعبة الشعوب ولعنة الفيفا!

ROSTOV-ON-DON, RUSSIA - JULY 02: Nacer Chadli of Belgium scores past Eiji Kawashima of Japan his team's third goal during the 2018 FIFA World Cup Russia Round of 16 match between Belgium and Japan at Rostov Arena on July 2, 2018 in Rostov-on-Don, Russia. (Photo by Laurence Griffiths/Getty Images)

لا شك بأنه لا توجد في العالم بأسره لعبة رياضية واحدة تحظى بهذا القدر من الإجماع كما تحظى به لعبة كرة القدم، تلك اللعبة الشعبية التي انطلقت في القرن التاسع عشر من الأراضي البريطانية إلى باقي أرجاء العالم، حيث كان لرياضيي هذا البلد الفضل في وضع تصورها العام، قبل أن تصل إلى ما هي عليه الآن بعد مجموعة من التعديلات على مستوى القوانين واللوائح طوال ما يزيد عن القرن ونصف من انطلاقها، وفي خلال هذه الفترة اكتسبت اللعبة شعبيتها الجارفة على مستوى العالم.

إن كرة القدم تتجاوز كونها مجرد لعبة رياضية، إذ أن أغلب الألعاب الأخرى لا يتعدى إطارها العام حدود المنافسة الرياضية الصرفة، أما في حالة كرة القدم فقد تجاوز الأمر ذلك بكثير، فتحولت اللعبة إلى ميدان مبارزة حقيقي بين دول وشعوب، وبين سياسات وإيديولوجيات، كما حملت هذه اللعبة أحلام أمم نحو الصدارة العالمية من بوابة منافسات رياضية ككأس العالم، والتي تتوج بها دولة من الدول المتنافسة مرة كل أربع سنوات، وهو الحلم الذي ترصد له هذه الدول الأموال الطائلة من أجل تحقيقه، وفي بعض الأحيان فقط من أجل مجرد المشاركة ”المشرفة“ في هذا المحفل العالمي.

كما تحولت لعبة كرة القدم في كثير من الأحيان ولدى كثير من الأنظمة خصوصا في دول "العالم الثالث" إلى وسيلة لإلهاء الشعوب وإبعادها عن مشاكلها البنيوية الحقيقية، في غياب أي إرادة حقيقية للتقدم والسير نحو الأمام، حيث وصل الأمر بالبعض إلى وصفها بأنها "أفيون الشعوب". لكنها في المقابل شكلت رافعة من رافعات التنمية في بلدان أخرى ذات أنظمة أكثر ديموقراطية. حيث ساهم تنظيم تظاهرات كروية من حجم كأس العالم في جلب موارد مالية واستثمارية ضخمة لبعضها، فيما قررت أخرى تطوير مستوى المنافسة الاحترافية فيها لتصبح كرة القدم مورد دخل اقتصادي مهم لها، خصوصا مع تحول الأندية فيها إلى شركات عملاقة تصل تعاملاتها إلى مئات ملايين الدولارات.

كرة القدم تجد خصوصيتها في كونها لا تحتاج الكثير من الموارد لممارستها، ولذلك أسموها رياضة الفقراء

لكن وبعيدا عن التوظيف السياسي للعبة كرة القدم خصوصا في دول العالم الثالث، فإن لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذه اللعبة ومنذ بداياتها الأولى قد وجدت موطئ قدم لها في وجدان الشعوب، سواء تلك التي تعيش في الدول الغنية أو تلك التي تعيش في الدول الأقل غنى أو الفقيرة. فلعبة كرة القدم تشكل متنفسا لهذه الشعوب ومثار منافسة وتحد بين أفراد المجتمعات، كما أنها تقوي الروابط والانتماءات الوطنية والجهوية والمناطقية.

أما في الدول الفقيرة فإن كرة القدم تجد خصوصيتها في كونها لا تحتاج الكثير من الموارد لممارستها، ولذلك أسموها رياضة الفقراء، فهذه اللعبة قد تمارس في الملاعب الضخمة ذات التكاليف الكبيرة والتجهيزات الحديثة، كما يمكن أن تمارس بكل سهولة ويسر في ملاعب ترابية أو اسفلتية، في مساحات شاسعة أو في أحياء وشوارع ضيقة، بأحذية رياضية من ماركات عالمية، أو بمجرد أقدام حافية. لكن الأكيد أنها في كل الحالات تمارس بشغف وحب كبير.

ولعل عدم اشتراط وجود تجهيزات متطورة وبنيات تحتية ضخمة لممارسة لعبة كرة القدم هو ما ساهم في انتشار هذه الرياضة في أوساط الفئات الشعبية بالدرجة الأولى، وهو ما ساهم في بروز أسماء انطلقت من أدنى درجات الفقر في السلم الاجتماعي إلى أعلى سلم الشهرة العالمية. وهكذا فإن أسماء كبيلي ومارادونا ورونالدينيو وكريستيانو وميسي وغيرهم ألهموا الكثيرين على مدار عشرات السنين، وسيلهمون وسيلهم غيرهم في المستقبل ملايين الشباب الحالم عبر العالم.

اتهامات كثيرة لا تستطيع الفيفا نفيها كلها تطفو على السطح في كل مرة خلال المنافسات العالمية الكبرى خصوصا كأس العالم
اتهامات كثيرة لا تستطيع الفيفا نفيها كلها تطفو على السطح في كل مرة خلال المنافسات العالمية الكبرى خصوصا كأس العالم

لكن كرة القدم وبالإضافة كذلك إلى طابعها البسيط والسلس تحمل طابعا أخرا، الطابع التنظيمي الذي تسهر عليه الفيفا، وهي المنظمة العالمية المكلفة باللعبة التي تأسست في بداية القرن الماضي والتي تضم في عضويتها عشرات الاتحادات الدولية، وهذا الطابع وإن كان يبدو ضروريا للكثيرين للمحافظة على كرة القدم وحمايتها وتأطيرها، إلا أنه كذلك لطالما أثار الكثير من الجدل، خصوصا مع الاتهامات الموجهة لهذه المنظمة بالفساد في الجانب المالي خصوصا، وهو الأمر الذي زكاه سقوط رئيسها السابق بلاتر وعدد كبير من معاونيه، فالفيفا ومع مرور الوقت ومع زيادة شعبية اللعبة وتوسع مداخيل البث التلفزيوني والإعلانات وغيرها تحولت إلى منظمة ربحية بميزانية ضخمة وبثقل كبير.

اتهامات كثيرة لا تستطيع الفيفا نفيها كلها تطفو على السطح في كل مرة خلال المنافسات العالمية الكبرى خصوصا كأس العالم، والدورة الأخيرة المنعقدة حاليا في روسيا أبرز مثال على ذلك، وبالإضافة إلى الفساد المالي فإن التحيز ضد المنتخبات "الصغيرة" في مواجهة المنتخبات الأعرق على مستوى المنافسة لا يمكن أبدا تجاهلها، حتى أصبح الأمر أشبه "بلعنة" تلاحق المنتخبات الأضعف على مستوى الصيت الإعلامي والكروي طبعا.

فتتوالى الأخطاء التحكيمية الفاضحة والفادحة في حق هذه المنتخبات، بل إنه من المضحك في هذا الصدد أنه حتى التكنولوجيات المتطورة التي يتم توظيفها لكشف أي انحياز أو خطأ لا يتم استخدامها غالبا إلا إذا كان الأمر لمصلحة المنتخبات القوية. ويفسر البعض ذلك بكون أن الفيفا لن تكون مستفيدة من وصول المنتخبات الأقل وزنا كرويا إلى الأدوار المتقدمة وإقصاء المنتخبات الكبيرة، وذلك يعود لأسباب مرتبطة بصورة البطولة بشكل عام ووزن للاعبين ورغبة الجماهير وكل ذلك مرتبط بشكل عام بالقيمة المادية للبطولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.