شعار قسم مدونات

فوضَى جَميلة وأخرى خَلاّقة!

blogs ثورات، فوضى

إنّ "الفوضَى" كمُفردة مستقلّةٍ بذاتِها، عادةً ما تُثير في النّفوس حالةً من عدم الارتياح وإحساسٍ بعدم امتلاك معرفة كافية بالظواهر الموسومة بالفوضويّة، وهذا ما يجعلُها مقرونةً بالقُبح، وبالتّالي يكون الجَمالُ قرين المعرفة. ممّا يعني أنّ الفوضى في حقيقتِها ليست سوى تَمظهُرٍ لنقصٍ جوهري في معرفتنا البشريّة، فكلّما توسّعت آفاق هذه المعرفة سيقود الأمر بالضّرورة لتقليص هالة الفوضى وقصّ أجنحتِها.

 

لهذا انكبّ العُلماء منذ قرونٍ بعيدة على مُحاولة إيجاد صياغاتٍ علميّة (رياضيّة، فيزيائيّة…) مُحكمة لكلّ الظواهر الطبيعيّة التي تبدو فوضويّة لدى المراقب العادي. لكن مهما حاولنَا فمِن غير المُمكن للإنسان أن يُسيطر على الكون، لأنّ هذا الأخير خاضعٌ لقوانين فوضويّة مُتشعّبة، لا يستطيع أن يضبطها أو يتحكّم في مجرياتها. فسبحان القائل: "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً".

 

تُرى نظريّة الفوضى، بفوضى العالم، كأوّل شيءٍ، فما النّظام إلاّ مُجرد أفكار يتعايش بها الإنسان، وضعها كأساساتٍ وضوابط يسعى من خلالها إلى فهم الواقع من حوله والكون، يقول هنري آدمز: "كانت الفوضَى قانونُ الطّبيعة، فيما كان النّظام حُلم الإنسان". وهي وإنْ كان بِها جانبٌ فلسفيٌّ، إلاَّ أنَّ الجانب الآخر منها يهتمُّ بإيجاد أنماط محدّدة من التّرتيب داخلَ الفوضَى الظّاهرة، فلو أمعنّا النّظر بهذه العشوائيّة لوجدنا نوعًا من النّمط المتكرر بشكلٍ دَوري مُنتظم، مع ما يبدو عليه الحال الظّاهري من فوضَى.. ويتّضح الأمر بصورةٍ أكبر وأبسط في الهندسة الرياضيّة، فمثلاً لدراسة شكلٍ غير اعتيادي (غير مُنتظم)، نحتاج إلى تقريبه إلى الأشكال الاعتيادية الأخرى (المثلث، المربع، الدائرة…).

 

انتشر مصطلحُ "الفوضى الخَلاَّقَة"بعالم السياسة، وهي نظريّة تَرى أنّ وصول المجتمع لأقصى درجات الفوضَى المُتمثلة بالعنف والرُّعب والدم، يخلقُ إمكانيّة إعادة بنائه بهويّة جديدة أكثر أمنًا واستقرارا

وإذا ألقينا نظرةً على عالَم الذرّات مثلاً، نجدُ أنّ حركة الإلكترون في الذرّة، تُأثّر في حركة الكون ككل، فتحريرُ إلكترونٍ واحد من ذرّته يجعل منه قابلاً للالتحام بذرّةٍ أخرى، وإحداث تركيبة جديدة في الذرّات المُجاورة، وهكذا.. إلى غاية الوصُول إلى التّركيب الكوني. وقد ذهبت هذه النظرية إلى أبعد من ذلك، حيثُ وصلت إلى القول بأنّ: "رفة جناح الفراشة في مكانٍ ما قد تُسَبِّب إعصارًا في مكان آخر من الأرض بعد عِدَّة سنين". وهذا المبدأ يسمى بـ تأثير الفراشة (Butterfly effect).

 

إنّ هذه النظريّة هي ببساطة شديدة جدًا تعني أنّ أمورًا صغيرةً جدًا، لا نحسبُ لها حسابًا، قد تُحدث تغييرات هائلة وكبيرة في أكبر الأنظمة، وفي أصغر الأنظمة أيضًا، وربّما على مُستوى الكون أجمع، قد يكُون التّأثير بسيطًا ويمكن إهماله في الجُزء، لكنّه لا يزال في الكل، جزءٌ لا يتجزّأ منه، بل يؤثّر فيه بشكلٍ كبيرٍ ومرئي، فكلُّ شيءٍ مُترابط، فحدثٌ صغير يقوم بحدثٍ أكبر، ثم حدثٌ أكبر، ليصل في نهاية المطاف إلى شيء كبيرٍ جدًا… وربّما لا يكُون التأثير مُباشرًا فقد لا يظهر للعيَان في بادئ الأمر، لكن قد يظهر بعد سنوات أو بعد قرون، وهكذا.

 

الحقيقة أنّ هذا الأمر (الفوضى) لا يقتصر على عالَم الفيزياء والرياضيات، ولا على المجالات الفلسفيّة والعلميّة وعلوم البيولوجيا والطبّ فحسب، والتي أبانت في مُجملها أنّ الصّغير هو المؤثّر الأكبر في النُّظم الفوضويّة، فدفعت بالإنسانِ إلى البحث والاكتشاف، إلى التأمّل وطرح المزيدِ من الأسئلة، في مُحاولة بائسةٍ منه لإيجاد تفسيرٍ لكلّ شيء من حوله، وإخضاعِ العالم لقوانين ديناميكيّة يضعُها هو، فوضى لن تنتهي إلاّ بانتهاء البشريّة، لأنّ هذا الكون دقيقُ الصُّنع مُحكمٌ مُتقَنٌ بدرجةٍ تَجعلُ العقلَ يقفُ عاجزًا عن مَعرفةِ أسراره، "فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"، الذي خلق هذا الكون، فنظّمه تنظيمًا بديعًا… إنّ هذه المجالاتُ رغمَ فوضويّتِها، إلاّ أنّها تُبدي أنماطًا رائعة في جمالها وحيويّتها. فسبحان الله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ!

 

لكنّ نظريّة الفوضَى هذه، تتجاوز هذا المُستوى من الجَمال، لتكونَ مدخلاً وإسقاطًا عامًّا على الأمور اليوميّة والحياتيّة للإنسان، فنجدُ وقعَها في السياسة والاقتصاد، ونجدُ لها أيضًا مكانًا كبيرًا في أحداثٍ تاريخيّة وسياسيّة بل إنّه من المُمكن القول أنّ الكثير من تلك الأحداث ومسارهَا كانت بدَايته خفقَان جناحيْ فراشة أو حتّى بعوضة هُنا أو هُناك… شيءٌ بسيط لتأثيرٍ كبير، ومن يدري!

 

فوضى
فوضى "خلاَّقَة"، أي بنّاءة، تخلقُ حالةً أكثر راحة وازدهارا! في حين أنّه لا ينمُّ سوى على كونه فوضى مُدبّرةٌ مُدمّرة، قد نشرتهُ الولايات المتّحدة فقط لتتستّر خلفهُ
 

وفي عالم السياسة مثلاً، انتشر مصطلحُ "الفوضى الخَلاَّقَة"، وهي نظريّة تَرى أنّ وصول المجتمع إلى أقصى درجات الفوضَى المُتمثلة بالعنف والرُّعب والدم أيضًا (كما يحدُث في العراق واليمن)، يخلقُ إمكانيّة إعادة بنائه بهويّة جديدة أكثر أمنًا واستقرارا، في حين تحملُ في طيّاتِها أهدافًا أخرى تصبُّ في مصلحة من يقوم على إحداثها، فهو مُصطلحٌ أُطلقَ عُسفًا وبُهتانًا لأنّه لا يُشير أبدًا لما يحملهُ في معناه الحقيقي: "خلاَّقَة"، أي بنّاءة، تخلقُ حالةً أكثر راحة وازدهارا! في حين أنّه لا ينمُّ سوى على كونه فوضى مُدبّرةٌ مُدمّرة، قد نشرتهُ الولايات المتّحدة فقط لتتستّر خلفهُ، لتكون كدُول القلب التي تسعى لتُعجّل من انكماش الثقوب في الدّاخل العربي ولا تكتفي بمُجرّد احتوائها من الخارج، فتُلغي به تواريخ وتُعيد ترسيم الخرائط الجغرافيّة والسياسيّة العربيّة، وتستبيح أوطانًا في إطار شبكة مُعقّدة من المصالح والعلاقات التي لا تأبه إلا لمكاسب شخصيّة.

 

هو تمامًا ككرة ثلجٍ تكون بدايتُها صغيرة، تتدحرجُ فتكبُر شيئًا فشيئًا، لينتهي بها المطافُ إلى نتائج كارثيّة لا يمكن إيقافها، ومن هنا فإنّ أي تغيّر طفيف يلحق بنظام سياسي مفتوح ومُعقّد قد يتحوّل إلى اضطرابٍ هائلٍ يُغيّر ملامح ذلك النّظام، فأمريكَا لا تسعى لإيقافِ كرة الثلج لتُخفّف من هول الاضطراب حتى وإن كانت قادرة على ذلك، طالما أنّ النتائج ستكون لصَالحِها في النهاية.

 

إنّ هذه الفوضَى لن تتجاوزَ هذا المستوى من القُبح والبشَاعة، فتكونُ خلاّقةً فعلاً، إلاّ إذا صَارت مبحثًا للدّراسة كعلمٍ قائمٍ بذاته "علمِ الفوضَى"، كما هو الحَال بالنّسبة لـ "رياضيّات النُّظم الدّيناميكيّة"… ففي النّهاية الفوضَى ليست بتلك البشاعةِ التي نراها عليها، لكن ما جَعلها تبدُو كذلك، أنّ كلّ ما هو قبيحٌ في عالم المحسُوسات وجَب أن يُوجد لهُ نظيرٌ في عالم المثاليّات، فإذا رسَخت القيمة القَبيحة في تلافيف الوُجدان فإنّها تمدُّ أطرافهَا لكي تشمَل جميع مُرادفاتِها الماديّة والمعنويّة على السّواء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.