شعار قسم مدونات

رسالة من اليابان.. أيها العرب أرجوكم لا تتقدموا!

blogs المجتمع الياباني

"اليابان" اسم يحمل لنا الكثير من مشاعر الإعجاب والاندهاش ببلد من الصف الأول استطاع من بعد خوضه حرباً دموية النهوض مجدداً بل وبناء حضارة تضاهي الدول المتقدمة آنذاك، وكل ذلك تم في ظرف بضعة أعوام أبان الحرب العالمية الثانية. مما جعل اليابان تغدو مضرباً للمثل يجري على ألسنتنا عند التحدث عن التقدم أو عندما نحكي عن البلدان التي استطاعت النهوض بعد الحرب.

 

اليابان، ذلك البلد الذي استقطب العديد من الإعلاميين العرب أمثال الإعلامي الناجح أحمد الشقيري للتحدث عنها والتعرف على حضارتها وإلقاء الضوء على الجميل فيها لأخذ العبر والدروس. الأمر الذي أدى كذلك إلى لفت أنظار شريحة من الشارع الشبابي العربي إلى اليابان كوجهة جديدة للهجرة أو الدراسة بدلاً من أوروبا وأمريكا.

مما لا شك فيه، أنه لم تكن غاية الشقيري ولا غيره عمل حملة ترويجية عن اليابان بل تشجيعنا على تطبيق نظامهم في بلداننا. إلا أن بعض المتأثرين بالحضارات المتقدمة يفضلون الهجرة إلى بلد متحضر بدلاً من العمل على التقدم ببلدانهم. فهم يفضلون الحصول على الرفاهية بسرعة وضمانة دون تعب، والحصول على الأشياء الجاهزة بدلاً من تجهيزها. الأشياء الجاهزة مثل البلد الجاهز والحضارة الجاهزة والمستقبل الكريم الجاهز! ثم ليعود بعضهم إلينا ويلقي علينا دروساً في الحضارة والتقدم وكأنه ساهم بها أو كان أحد جنودها!

يبدأ المغترب العربي بالتأقلم شيئاً فشيئاً مع المحيط الجديد حتى يشعر بالكم الهائل من الضغط الذي يثقل به الياباني ظهره في عمله، مما قد يحدو به أحياناً إلى النوم في محطة القطار

وفي المقابل، هنالك من يسعى في هجرته إلى طلب العلم والمعرفة لتقديمهما إلى أرضه بعد عودته إليها للرقي بها. فتكون غيرته على وطنه وشعوره بالوطنية دافعهاً له لترك ذلك الوطن، ويكون عشقه لأرض دافعاً له للابتعاد عن تلك الأرض! بعد أن يصل المهاجر أو العامل أو الطالب العربي إلى اليابان، يبدأ بتعلم القواعد والضوابط الحياتية والعملية الكفيلة باندماجه بهذا الشعب المختلف كلياً. هذا الشعب الياباني الذي يصعب عليه تقبل الأجنبي بسهولة على غيار العديد من البلدان.

 

فتكون التحديات التي يواجهها المغترب في اليابان تفوق مثيلتها من تلك التحديات التي يواجهها المغتربون في أوروبا أو أمريكا. حتى أن بعض العرب قد يشعر بتقاربه ثقافياً وحياتياً من أخيه الأوروبي في اليابان أكثر من أي مكان آخر نظراً لوحدة الحال التي تجمعهم في هذا البلد أو كونهم يمرون بظروف متشابهة من صعوبةٍ في التأقلم وفهمٍ لعقلية نظيرهم الياباني. فالياباني يتعلم منذ سنين حياته الأولى الانضباط الصارم في العمل والإخلاص المتناهي له ولو على حساب حياته نفسها. ويتعلم المراعاة المطلقة لمحيطه في كل صوت يصدره أو كل خطوة يخطوها حولهم.

وما إن يبدأ المغترب العربي بالتأقلم شيئاً فشيئاً مع المحيط الجديد حتى يشعر بالكم الهائل من الضغط الذي يثقل به الياباني ظهره في عمله، مما قد يحدو به أحياناً إلى النوم في محطة القطار خوفا من التأخر صباحاً عن عمله ولو لدقائق في حال كان مسكنه بعيداً عن مكان عمله! وحينما يكسب المغترب المعجب بحضارة هذا البلد أصدقاء يابانيين، يندهش من مدى صغر مساحة الحياة الشخصية للعديد منهم خارج إطار أعمالهم. فقد يقضي الياباني اثنتي عشر ساعة متواصلة في مقر عمله يومياً ولا يعود إلى بيته إلا للنوم دون التمكن حتى من قضاء ساعة واحدة مع أسرته قبل خلودهم إلى النوم.

 

والحال نفسها بالنسبة للسيدات اليابانيات العاملات اللواتي قد يقضين أغلب حياتهن في مكان العمل فتكون حياتهن الخاصة عبارة عن التحية التي يلقونها على أزواجهن وأولادهن ليلاً قبل النوم أو في العطل الأسبوعية. حتى يصل الأمر بعد التقاعد إلى صعوبة تعرف أحد الزوجين على الآخر بعد كل تلك السنين الطوال من العمل فيقرران الانفصال كلياً والطلاق!

جوانب كثيرة لم يكن العربي يعي وجودها وراء هذه الحضارة المتقدمة ووراء هذه الصورة الباهية والتي تحتاج إلى الكثير من التضحيات للمحافظة على بهاءها. بعض المغتربين قد يصل إلى النتيجة القائلة (حمداً لله أني لست يابانياً) فيقرر الانعزال تدريجياً عن هذا الشعب والاكتفاء بالجالية العربية لمليء حياته الاجتماعية مع الحفاظ على الحدود الدنيا من الالتزام بعمله (وأعني بالحدود الدنيا الانصراف من عمله عند انتهاء الدوام الرسمي أي الساعة السادسة مساءاً دون العمل لساعات إضافية!) فالعامل الياباني الاعتيادي لن يستطيع الانصراف عند انتهاء الدوام الرسمي حتى وإن أنهى مهامه لألا يعتبره زملاؤه شخصاً مستهتراً كسولاً ويرمقونه بنظرات الاستهجان والتأنيب!

إلا أن بعض المغتربين يفضل رغم كل شيء الانصهار التام في المجتمع فتراه يمشي بخطوات سريعة نحو محطة القطار كياباني، ويعمل لساعات طويلة جداً كياباني، حتى أنه ينحني أثناء التحدث على الهاتف كياباني! نماذج تضارب بعض الشيء بين مغترب وآخر وقلما تخد نموذجاً متوازناً بنجاح!

ولكن، لنرى بالمقابل نظرة الياباني الذي سنحت له فرصة معاشرة بعض المغتربين ومشاركتهم أنشطتهم. (باستثناء اليابانيين الغير متقبلين لوجود الأجنبي في أرضهم والغير مستعدين للترحيب بثقافة غريبة عنهم)، هنالك البعض من اليابانيين المنبهرين بجوانب من ثقافتنا تماماً مثل انبهارنا بجوانب من ثقافتهم. إلا أن الجوانب التي تجذبهم هي ما نقص من كمالهم وما قد يكمل لوحتهم البهية. ألا وهي الجوانب الاجتماعية أو الروحانية (وأعني بالروحانية الجوانب الدينية، إذ أن المجتمع الياباني لديه الكثير من المعتقدات الروحانية التي لا تمثل بالضرورة جانباً دينياً).

 

فبعد أن يختلط أحدهم بالتجمعات العربية حتى يفاجئ بالروابط القوية التي تجمع الأسر مع بعضها والأصدقاء مع بعضهم. في حين أن هذا الياباني قد لا يتسنى له تناول وجبة طعام واحدة مع أسرته طيلة أشهر طويلة أو قد لا يتقبل فكرة عناق أولاده أو أحد أفراد أسرته طيلة حياته لما في ذلك من مبالغة بالتعبير عن العواطف! فيجد هنالك في تجماعتهم الناس حوله تتضاحك وتسلم بحرارة على بعضها وكأنها لم تلتق منذ سنوات! في حين أنه يعلم بكثرة تلاقيهم! ويجد أن العناق مثلاً قد يكون صيغة اعتيادية جداً من السلام بين الرجال مع بعضهم أو بين النساء مع بعضهن. ويجد ممارستهم لشعائرهم الدينية وانضباط صفوفهم بالصلاة مثلاً تجسيداً لبعض الأفكار التي تربى عليها!

فيجد الياباني نفسه أمام أولويات تختلف تماماً عن أولوياته حيث أن الأسرة تتصدر القائمة، والحياة الاجتماعية لا تقل أهمية أبداً عن الحياة العملية. فيشعر بالغبطة ويتمنى الانتماء لمجتمع كذلك! فتجد عندها الحديث يدور على شاكلة: ليتني كنت أعيش في أسرة تشبه أسرة أي منكم! ليرد عليه العربي قائلاً: بل ليتني كنت أنا يابانياً حتى أتمتع بميزات الانتماء لهذا البلد العظيم! ويستمر الأخذ والرد بينهم وكلّ يرى الأمر من منظار ما ينقصه.

يصل العربي المغترب إلى مكان يجد نفسه في منتصف الطريق فلا هو يقوى على الاندماج تماماً في خلية النحل اليابانية ولا هو قادر على تقبل ما تركه خلف ظهره
يصل العربي المغترب إلى مكان يجد نفسه في منتصف الطريق فلا هو يقوى على الاندماج تماماً في خلية النحل اليابانية ولا هو قادر على تقبل ما تركه خلف ظهره
 

إن الياباني ورغم اعتداده بجنسيته وثقافته وتقدم بلده، إلا أنه يعي تماماً ضريبة التقدم التي وصل إليها. ويعلم أنه لا طريق للعودة ولا وقت للتوقف قليلاً والتقاط الأنفاس إذ أن القواعد المجتمعية صارمة للغاية، والسقوط مرة قد يعني نبذه تماماً من المجموعة، والاختلاف سيتحول بنظر المجتمع إلى فعل نشاز ضمن شعب تبنى نظرية العمل الجماعي إلى حد جعل من التميز خطأً ومن التفرد جرأة زائدةً فتبنى مبدأ العمل الجماعي تماماً مستمتعاً بإيجابياته حتى أخذ به الأمر إلى تبني السلبيات كذلك.

وفي المقابل، يصل العربي المغترب إلى مكان يجد نفسه في منتصف الطريق فلا هو يقوى على الاندماج تماماً في خلية النحل اليابانية ولا هو قادر على تقبل ما تركه خلف ظهره. فيناشد الياباني صاحبه العربي قائلاً: أرجوكم لا تفقدوا جمال ثقافتكم! إن كان التقدم سيفقدكم هويتكم، فأرجوكم لا تتقدموا فالضريبة غالية! ليرد عليه العربي: ولكن البقاء تحت وطأة التخلف أمرٌ لا يطاق! فهل سيصل أحدهما إلى التوازن؟ أم أنه لا وجود لشعب متوازن؟ وما التوازن سوى مبدء مثاليا لم يخلق لعالمنا المليء بالتناقضات؟

وهل سنضطر دائماً لتقدمة التضحيات في سبيل الحصول على ما ينقصنا؟ وهل يقتضي سد النقص وتعبئة فراغ واحد إلى خلق فراغات جديدة حكماً؟ ويا ترى، هل سيؤدي بنا الضياع بين المتناقضات إلى الوصول إلى ذلك اليوم الذي نعيد فيه تعريفنا للنجاح على أنه حالة الاعتدال والتوازن بين العمل والحياة الاجتماعية؟ وهل سيأتي يوم تعتز به الشعوب بميزاتها مع الاعتراف بما ينقصها والسعي إليه بأمانة؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.