شعار قسم مدونات

الحاكم الأبوي في المشرق أفضل من المستبد الحداثي

blogs الاستبداد

تتسم المجتمعات التقليدية عموماً والشرقية/العربية خصوصاً بأنها مجتمعات أبوية. بمعنى أن شيخ القبيلة –وهو أعلى منصب في المجتمعات التقليدية – يتعامل مع أتباعه في القبيلة كما يتعامل الأب مع أفراد أسرته المباشرة. وعلى الرغم من أن ظاهرة الأبوية هذه حفظت المجتمعات التقليدية وامتد أثرها الإيجابي إلى المجتمعات الحديثة في كثير من البلدان، إلا أن استغلال الاستبداد السياسي لهذه الظاهرة ينذر بفتق نسيج المجتمع بل بنسف المجتمع بكامله. وهذا ما سنتعرف عليه في هذه المدونة.

 

كثيراً ما تعلمت المجتمعات التقليدية من الطبيعة، وطورت سبل معيشتها بناءً على ذلك. ولعل الرقصات الشعبية في غالب الأحيان هي تقليد لحركات الحيوانات والطيور. وبنفس القدر فإن فنون القيادة أيضاً مأخوذة من الطبيعة، إذ لا يمكن أن يسير سرب من الطيور أو قطيع من الحيوانات ما لم يكن هناك قائد مسيطر يقود الركب إلى أطيب المراتع والمَهَاجر الصيفية أو الشتوية وتجنيب السرب أو القطيع المواقع التي تكون فيها مخاطر. لا يحتاج قائد القطيع إلى ممارسة لتعنيف الأفراد لأداء ما عليهم، لأن كل فرد من أفراد القطيع يعي دوره بالفطرة. القائد هو الدليل وحامي القطيع.

 

شيخ القبيلة في المجتمعات التقليدية يمارس نفس الدور بحيث يسهر على سلامة القبيلة ويجنبها المخاطر ويسعى لتكوين أحلاف مع قبائل أقوى بغية الحماية. ويتسم شيخ القبيلة عبر التاريخ بالحكمة وفصل الخطاب. كلامه يسير به الركبان ويصبح قانوناً. ينظر إليه الناس باعتباره أباً للكل. وما يقوله أو يقرره يسري على الجميع. ما يميز شيوخ القبائل هي أنهم يلعبون هذا الدور الأبوي بشفافية وعاطفة قوية يرقى بهم إلى مصاف الأبوة في المجتمع.

 

النخب التي تولت زمام الأمر بعد خروج الاستعمار، سواءً أكانت النخب المدنية أو النخب العسكرية التي انقلبت على النخب المدنية بإيعاز من أسيادهم من وراء البحار، أدارت البلاد إنابة عن الاستعمار وبنفس عقلية الاستعمار

عندما قامت الدولة الحديثة في العالم العربي أصبح التطور المدني يدب في أروقة الحياة، إذ أقيمت الوزارات الحكومية وأصبح التعليم العصري منتشراً وأنشئت البنيات الأساسية من طرق وجسور ومدن وأسواق وغيرها، وكلها شكليات الدولة الحديثة دون الجوهر. بعض المجتمعات العربية خاصة في شمال أفريقيا كمصر وتونس والجزائر والمغرب أصبحت مجتمعات مدنية إلى حد كبير (بمعنى أن دور القبيلة تقلص فيها كثيراً)، بالمقارنة مع بقية البلاد العربية عموماً والمجتمعات الخليجية خصوصاً حيث ظلت مجتمعات تقليدية في توجهاتها السياسية.

 

الظاهرة الأبوية أفادت المجتمعات الخليجية التي تحولت من مشيخات أو إمارات تضم قبيلة واحدة إلى دول تضم عدة قبائل. وأبرزت قيادات استطاعت أن تحكم بنفس الروح الأبوية أمثال الشيخ زايد وحمد بن خليفة والسطان قابوس وغيرهم بدرجات أقل. غير أن الإشكالية التي وقعت فيها البلدان العربية الأخرى هي أنها خرجت من كونها تقليدية بعد أن غيرت نمط الحكم فيها ولم تواصل التغيير لتصبح حديثة مضموناً. فأصبح حالها كحال النعام امتلكت الريش ولم تتمكن من الطيران.

 

والسبب في ذلك أن النخب التي تولت زمام الأمر بعد خروج الاستعمار، سواءً أكانت النخب المدنية أو النخب العسكرية التي انقلبت على النخب المدنية بإيعاز من أسيادهم من وراء البحار، أدارت البلاد إنابة عن الاستعمار وبنفس عقلية الاستعمار فأصبحوا أسياداً، ولم تكن مصلحة الشعب يوماً جزءً من برنامجهم.

 

وفي الوقت الذي احتفظت فيه المجتمعات التقليدية بنظمها الأبوية في إدارة الدولة، حرم الاستبداد السياسي البلاد العربية الأخرى من أن تصبح دول مدنية حديثة، وإنما أبقتها مدنية شكلاً بينما لم تكن تقليدية مضموناً وإنما ظلت مسخاً مشوهاً. عندما نقول دولة مدنية حديثة نقصد الدولة التي يكون فيه استقلال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ويكون فيها اختيار راس الدولة اختياراً شعبياً حراً، وتوفر العدالة والحرية وتُحقق الحقوق.

 

وبما أن مجتمعاتنا ما زالت تقليدية تحكمها الأعراف والتقاليد والقيم الدينية، لا بأس أن يحكمها النظام الأبوي، سواءً عبر الحكم العائلي المطلق أو عبر الانتخابات الحرة. وإذا كان النظام العائلي يحقق رفاهية المواطن وكرامته ويحكم بالعدل ويعطي الحقوق فهو أولى بالحكم.

 

الاستبداد يفتق بالنسيج الاجتماعي بنشر الفرقة بين أفراد المجتمع حتى يتقاتل الناس ثم يأتيهم ليبدو منقذاً لهم من بأس بعضهم البعض، وينشر العنصرية بحيث تشعر مجموعة من الناس أنهم أفضل من غيرهم وأنقى عرقاً
الاستبداد يفتق بالنسيج الاجتماعي بنشر الفرقة بين أفراد المجتمع حتى يتقاتل الناس ثم يأتيهم ليبدو منقذاً لهم من بأس بعضهم البعض، وينشر العنصرية بحيث تشعر مجموعة من الناس أنهم أفضل من غيرهم وأنقى عرقاً
 

العقلية الأبوية في إدارة الدولة الحديثة مسألة مهمة لأنها تستلهم الحكمة التقليدية في إدارة مجتمع ما زال تقليدياً، فتسعى لإطفاء بؤر التوتر وتعزيز السلم المجتمعي وإنشاء الشركات الحقيقية مع الدول الأخرى، وفتح أبواب الإبداع والابتكار، وإتاحة المجال العام للعلماء وذوي الاختصاص، بحيث تصبح الدولة كلها أسرة واحدة تعمل كخلية نحل وهي تتلمس خطاها نحو العالمية في كل شيء. الحاكم بالعقلية الأبوية تجده مرهف الحس، قوي العاطفة، سريع الاستجابة للمواقف الإنسانية مع الضعفاء وأدنى طبقات المجتمع، شحناً لروحهم المعنوية.

 

وعلى صعيد آخر، فإن مخاطر الاستبداد تصبح جلية عندما يتقمص المستبد شخصية الأب وهو دون مرتبة الأبوة التي أشرنا إليها آنفاً، لأنه يخدم مصلحة الأسياد الخارجيين الذين يضمنون بقاءه في سدة الحكم، أو نخبة سياسة أو مجموعة عرقية أو دينية معينة أو منطقة بعينها، ولا علاقة له بالشعب سوى أنه حاكمه.

مثل هذا النوع من الاستبداد يفتق بالنسيج الاجتماعي بنشر الفرقة بين أفراد المجتمع حتى يتقاتل الناس ثم يأتيهم ليبدو منقذاً لهم من بأس بعضهم البعض، وينشر العنصرية بحيث تشعر مجموعة من الناس أنهم أفضل من غيرهم وأنقى عرقاً، ويشغل الناس في أساسيات المعيشة حتى لا يجدوا وقتاً ينازعونه السلطة، ويخلق الأزمات مع دول أخرى أو جماعات ليتصدى لها حتى يوهم السُذّج أنه بطل، ويفسح المنابر للسفهاء ليروجوا لرغبات الاستبداد باسم الشعب، ويرخي الحبل للفساد حتى لا يبقى مسؤول في وظيفة عامة إلا وقد نال من الفساد نصيباً، ويقرب الأغبياء والحمقى الذين يحسنون التصفيق والتزمير ليقولوا له "لا يوجد أحد في هذا الشعب أحق بالحكم منك، ولا بد من تعديل الدستور لتواصل الحكم"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.