شعار قسم مدونات

هل يمكن أن تتصالح السنة والشيعة (2)

blogs - صلاة

ذكرت في المقالة السابقة الوسائل الشرعية التي يمكن من خلالها حل المعادلة المستعصية بين السنة والشيعة حتى نغلق باب المزايدات أمام أعداء الإسلام، الذين يلعبون على وتر الخلافات بين السنة والشيعة، وتأجيج العداوة بينهما. وذكرت في المقال الأول أنّ هناك غلو شيعي بسبب اتباع المذهب الصفوي الذي لا يمثل الشيعة المعتدلين وفي المقابل غلو سني بسبب اتباع المذهب الوهابي الذي لا يمثل أهل السنّة المعتدلين.

إنّ الذي أجج الصراع النائم منذ مئات السنين هو الغلو في مقابل الغلو وكلا الفرقين من أهل الغلو يطرح نفسه على أنه الصورة الحقيقية للإسلام، وبهذا الغلو يهلك بعضنا بعضاً والعدو يسعد. فلا مناص من اعتماد إطار عام لأهل الإسلام يدخل فيه كل مسلم ينطق بالشهادتين مهما تلبس هذا المسلم بأخطاء وشبهات وعقائد مخالفة ما كان محافظاً على أصول الإسلام ومحكمات القرآن. ولا مناص من تقنين الخلاف بين طوائف الأمة بما يُعالج الغلو ويبين أطر التعامل مع المخالف ما كان هذا المخالف ينتسب إلى الإسلام. لقد أكرم الله تعالى الأمة بعوامل عديدة تمثل أصول الإسلام التي يمكن أن تكون أصول التصالح والتعايش بين السنة والشيعة ومن أهم تلك العوامل:

1- الانتساب المجمل إلى دين الإسلام الذي هو دين الله في الأرض وفي السماء. قال تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وقال تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" فالسني والشيعي كلاهما ينتسب إلى الإسلام وكلاهما يشهد شهادة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله.

أكثر قضايا الخلاف في الأمة هي القضايا الظنية، وأهل العلم بالأصول قالوا بأن العموميات أكثرها ظني الدلالة وإن كانت قطعية المتن.

2- الإله الواحد والرب الواحد والمعبود الواحد وعقيدة السني والشيعي هي قوله تعالى "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" والسني والشيعي كلاهما يؤمن باللَّه الواحد الأحد المنزه عن الشبيه والمثيل والصاحبة والوالد والولد.
 

3- الرسول الواحد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والسني والشيعي كلاهما يؤمن به نبياً ورسولاً أرسله اللَّه تعالى إلى الناس كافة وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده.

4- القرآن الواحد والسني والشيعي كلاهما يؤمن بالقرآن الكريم "لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" ولا عبرة بالغلاة المارقين.

5- القبلة الواحدة، فالسني والشيعي كلاهما يستقبل القبلة في صلاته.

6- أصول الدين الواحدة، فالسنة والشيعة متفقون على الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ومتفقون على أركان الإسلام الخمسة شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً.

7 -العبادات الواحدة، حيث أن السنة والشيعة بحمد الله عبادتهم واحدة فالصلاة واحدة، فلا خلاف بينهم حول الصلاة المفروضة وعدد ركعاتها وبقية أركانها، والصيام في شهر رمضان واحد، والزكاة واحدة وهي النصاب الذي فرضه اللَّه في أموال الأغنياء يتفق عليه جميع المسلمين، والحج واحد والحلال بين والحرام‏ بين، والفرائض معلومة والمنهيات واضحة والكبائر يعلمها الصغير والكبير من السنة والشيعة.

8- الانتماء الواحد، فالسني والشيعي كلاهما ينتمي إلى أمة الإسلام وقد قال الله تعالى: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ".

9-  الخطر المشترك الواحد، قال تعالى: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أولِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ" فلابد من الوحدة والتكامل بين كافة طرائف الأمة من أجل مواجهة ذلك الخطر المشترك للجميع.

10- مرونة الشريعة التي تقبل التصالح بين كافة الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، فإن الله تعالى أراد لشريعة الإسلام أن تصلح لكل زمان ولكافة العقول والأفهام، فأكرمها بوجود نوعين من الأدلة. الدليل القطعي الذي يجتمع عليه المسلمون، والدليل الظني الذي يعطي مساحة واسعة للاجتهاد والخلاف، ومن سماحة الشرع أنّ من اجتهد فيما تعلق بالأدلة الظنية فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، بمعنى أنه لا يحرم الأجر. وكذلك فإن من رحمة الله تعالى بالمسلمين، أن أكثر قضايا الخلاف في الأمة هي القضايا الظنية، وأهل العلم بالأصول قالوا بأن العموميات أكثرها ظني الدلالة وإن كانت قطعية المتن، وذلك لكثرة ما يرد عليها من التخصيص، وجميع الأحكام والقضايا التي لم تثبت بالنص القطعي ثبوتاً ودلالة لا يصح أن تكون مفصالاً بين الحق والباطل بل يتسع فيها الإعذار. كما أنه لا يجوز أن يبنى عليها تكفير ولا استحلال محارم، لأن مخالفة القطعي ثبوتا ودلالة فقط هو الموجب للكفر المخرج من الملة ولا يوجد مثل ذلك إلا في المعلوم من الدين بالضرورة وهذا يتفق عليه جميع المسلمين، ثم حتى لو حدث ذلك فهناك موجبات درء التكفير بشبهات الجهل والتأويل.

  

يجب أن تكون هناك مجالس علمية متخصصة، تهدف لحل الخلاف بين السنة والشيعة وبطريقة منصفة عادلة لا تخضع لما عند طائفة من المواريث الفكرية، وإنما يحكم فيها القرآن الكريم لأنه محل إجماع الجميع فنتبع محكمه.
يجب أن تكون هناك مجالس علمية متخصصة، تهدف لحل الخلاف بين السنة والشيعة وبطريقة منصفة عادلة لا تخضع لما عند طائفة من المواريث الفكرية، وإنما يحكم فيها القرآن الكريم لأنه محل إجماع الجميع فنتبع محكمه.

من تدبر الأمر، وجد أن الاختلاف في القضايا الاجتهادية لا يصح أن يكون مجالاً لتفتيت وحدة الأمة، بل إنّ الذي تحتاجه الأمة الإسلامية في ميدان الأدلة الظنية ليس الترجيح والانتصار لرأي على آخر بقدر الحاجة إلى سعة الأفق والتسامح الذي يحتضن جميع المسلمين في إطار الأمة الواحدة، لأنّ دين الإسلام أوجب التآلف والتراحم ونهي عن التنازع الذي مآله إلى الفشل والهزيمة قال تعالى: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" لاشك أنّ التيار الصفوي في إيران والتيار الوهابي في السعودية، لكل منهما نصيب في تأجيج الخلافات بين أهل السنة والشيعة بصورة مخيفة، وصارت فتاوى التكفير واستحلال الدماء والحرمات من كلا الطرفين ضد الآخر، أحلى على صدور هؤلاء من شرب الماء البارد على الظمأ. يا ليت الغلو وقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى ظهور الجماعات التكفيرية المسلحة في كلا الطرفين، مثل فيلق القدس وفيلق بدر وجيش المهدي وعصائب أهل الحق عند الصفويين. في مقابل ذلك تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم داعش عند الوهابيين، واختلط الحابل بالنابل، واستُحلت دماء الأطفال والنساء في الجانبين، وصار الذبح على الأسماء والهويات بين المسلمين، ودخلت المنطقة الإسلامية في حرب طائفية ضروس بين السنة والشيعة أهلكت العراق ودمرت سورية ووصل صداها إلى اليمن. حرب بين السنة والحوثيين تنذر بدمار اليمن، والكل مسلمون وجميع القتلى والجرحى مسلمون، والكاسب الوحيد من تلك المعارك الطاحنة هو العدو الأصلي لأمة الإسلام. فهل آن لنا أن نفيق فبل فوات الأوان وسقوط بلاد المسلمين في أيدي أعداء المسلمين.

على مر عصور الإسلام لم يهدأ الخلاف الفكري بين السنة والشيعة، ولكنه كان غالباً يقتصر على الخلافات الفكرية والعقائدية والسياسية. لكنه اليوم تحول إلى حروب طاحنة أزهقت الكثير، ولا تزال تزهق من أرواح الأبرياء بسبب الغلو عند جميع الأطراف. كل طرف يحمل الآخر المسؤولية الكاملة عن سفك الدماء واستحلال الحرمات، مع أنّ العدل والانصاف يقتضي أن نرفض الغلو هنا وهناك، وأن نكون قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين. إن المسؤولية على ما يحدث مشتركة وليست على واحد من الطرفين دون الآخر والوصول للحق يقتضي تعاوناً بين جميع الأطراف لوأد الخطر. لا شك أن هناك خلاف في مسائل أصولية كبيرة وعميقة، ولكنه يمكن تقنين الخلاف حتى نصل إلى حد التصالح والتعايش.

إنّ الحاضر والمستقبل يحملان للأمة تحديات تفوق الوصف، فلا مجال لاجترار أحداث الماضي والعدو يلعب على وتر الخلافات بين السنة والشيعة في محاولة لإبادة الجميع، ولا مجال لاجترار تلك الأحداث وإن دعت الضرورة لبحث ذلك الماضي فإنه يجب أن يكون في مجالس علمية متخصصة وبطريقة منصفة عادلة لا تخضع لما عند طائفة من المواريث الفكرية، وإنما يحكم فيها القرآن الكريم لأنه محل إجماع الجميع فنتبع محكمه ونتوقف عند المتشابه ونفوض علمه إلى الله. ثم تعتمد تلك المجالس سياسات من شأنها تخفيف حدة الصراع، وتهيئ الطريق نحو حد أدنى من التصالح والتعايش، يُقوي أسس الوفاق ويقنن أسباب الخلاف بحيث يمتنع التكفير إلا وفق ضوابط دقيقة لا يقوم بها إلا أهل العلم والبصيرة المستوفون لشروط الاجتهاد مع الالتزام بأدب الإسلام في معاملة أهل الإسلام وتفادي تجريح الرموز من هاهنا وهناك. كذلك تبني مناهج معتدلة تدعو إلى الوئام، وتسعى صادقة وجاهدة من أجل طي صفحة الماضي، فلا تُنبش الفتن التي نجمت في القرن الأول، فإن الماضي لا يُدرك وقد مضى، فلا معنى لاجترار أحداثه قال تعالى "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ: وقال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.