شعار قسم مدونات

الأسباب الهيكلية للانهيار الاقتصادي في السودان

blogs العملة السودانية

لستُ اقتصاديًا، ومع ذلك أزعم هنا أني سأقدم "تحليلا" للأزمة الاقتصادية التي تمر البلاد منذ سنوات وتفاقمت مؤخرا، وسأحجج في هذا المقال بوجود عدة أوجه لما اسميه هنا "الخلل هيكلي" الخطير الذي تسبب في الأزمة الاقتصادية. إنّ التصريحات التي ظل يدلي بها المسؤولون تؤكد الانهيار الاقتصادي وحتى إن لم تقر بذلك صراحة، فضلا عن خطوة الاعلان عن تغير العملة مؤخرا، فكلها مؤشرات على: أولا، وجود خلل هيكلي في السياسة الاقتصادية ما لم تتغير فلن تجدي معها المسكنات والمعالجات الشكلية هنا وهناك، وأن الاستمرار فيها-في ظل الفشل والعجز الواضحين- سيؤدي لعواقب وخيمة. ثانيا، ونتيجة لذلك، تضخمت مجالات "الاقتصاد غير الرسمي"، حيث غدت أمرا واقعا في ظل مشكلات الاقتصاد الوطني، وهو ما لا يُشار إليه كثيرا أو حتى أخذه بعين الاعتبار.. وعليه، سأبين وجهة نظري هذه عبر النقاط التالية:

  

* بهدف مواجهة الحصار-المفروض من قبل الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، والتغلب على تداعيات والحد من تأثيراته، شجّعت الحكومة والحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) أشكالا من التعاملات الاقتصادية. غير أن تلك التعاملات، ونتيجة للتوسع فيها وتراجع الرقابة عليها، غدت مرتعا للمصالح الشخصية، وربما تكون ظاهرة "القطط السمان"- في إشارة لحديث الرئيس عن المتورطين في الفساد الذين تم توقيفهم قبل فترة قليلة- نتيجة لها، لاسيما مع غياب الرادع والإرادة السياسية لمكافحة الفساد.

  
* الاقتصاد السوداني في هيكله وبنيته عموما هو اقتصاد هش جدا لكونه اقتصاد تقليدي مغرق في تقليديته، ومشوه وهجين، ظل هكذا على تفاوت الحقب والنظم السياسية التي مرت على البلاد، حيث ظل الاقتصاد الوطني نهبا لنزوات الطبقة السياسية.

   

غياب أخلاقيات النزاهة العامة، ساعد على دخول الوزراء والمسئولين على كافة المستويات في ممارسات الأعمال الخاصة والإفراط في ذلك؛ وهو ما ساعد بشكل كبير علي زيادة ممارسات الفساد بشكل سرطاني

* مع أزمات البلاد والصراع السياسي وسط الطبقة السياسية، تجذر الزبائنية (نقصد هنا سوق الولاءات والنشاط السياسي كرأسمال او مصدرا للكسب الكبير، وليس فقط الحصول على الراتب المجزي)، خاصة مع تضخم الطبقة السياسية (حكومة ومعارضة) على مستوي المركز والولايات وداخل وخارج البلاد، ما ادى لزيادة الفساد وهدر الأموال العامة في الصراع السياسي.

* حتى قبل الأزمة الاقتصادية الحالية، والتي أوصلت القطاع المصرفي إلى حافة الانهيار وفقدان الثقة فيه من قبل المتعاملين والتي سوف تستمر لسنوات طويلة قادمة، طوّر المغتربون-مثلا- بالخارج تعاملات وتبادلات خارج النظام الرسمي، وهو أفقد الحكومة عائدات ضريبية محتملة من جهة، وفقدان عملات أجنبية وكميات كبيرة من السيولة.

* نتيجة لتلك السياسات، نشأ قطاع ضخم للاقتصاد غير الرسمي. فمع تراجع القطاعات الانتاجية وتوسع الحكومة على الضرائب والرسوم على كل شيء حتى الخدمات الأساسية، لجأ الناس- كما المغتربين- للتعاملات غير الرسمية أو خارج مؤسسات الاقتصاد- من التحويلات المالية إلى تجارة العملة مرورا ببيع الاراضي..الخ. فكان توسع الاقتصاد الموازي أو غير الرسمي بسبب تراكم السياسات الاقتصادية الخاطئة، وبمرور الزمن فقدان الثقة في مؤسسات الاقتصاد الرسمي.

* لعوامل عديدة، نشأ نموذج "فريد" للاقتصاد السياسي، لا يركز لا على تطوير الانتاج أو الخدمات أو تلبية الاحتياجات أو توفير السلع العامة للمواطنين. وقد لا تصلح مداخل التقليدية لعلم الاقتصاد السياسية تفسيره. ونتيجة لهذا الخلل الهيكلي ظلت السياسات الاقتصادية بدل أن تركز على تعظيم الإنتاج وتقوية هياكل الاقتصاد الوطني ومعالجة تشوهاته، غدت حقيقة تعمل على توجيه الموارد العامة لرفاه الطبقة السياسية والإنفاق السياسي التبذيري.

  

* غياب أخلاقيات النزاهة العامة، ساعد على دخول الوزراء والمسئولين على كافة المستويات في ممارسات الأعمال الخاصة والإفراط في ذلك؛ وهو ما ساعد بشكل كبير علي زيادة ممارسات الفساد بشكل سرطاني وخنْق الاقتصاد الرسمي، والتضييق على الإنتاجية الكامنة في القطاع الخاص الوطني، وإفقاد الخزينة العامة عائدات ضخمة بسبب التهرب الضريبي المحتمل والإعفاءات الكبيرة، علاوة على احتكار العطاءات والتعاقدات الحكومية في بعض الحالات.

 
* وهناك ايضًا الاعتماد المفرط على الاستدانة من الخارج والتوسع في ذلك، دون التحسب للعوامل التي يمكن أن تطرأ على مصادر الاقتراض هذه، لاسيما العوامل السياسية سواء كانت محلية أو خارجية، مع إغفال العمل على تنويع هياكل الاقتصاد الوطني وتطوير القطاعات الانتاجية بما يؤدي لتفادي الصدمات الاقتصادية والتخفيف من وطأتها، أدى كل ذلك إلى تسريع الانهيار الاقتصادي الحالي.

* في ظل تبنى السياسات الريعية، سوآءا بالاعتماد على مورد واحد- أكان النفط أو الذهب أو الثروة الحيوانية، وعدم تطوير وتنويع قطاعات الإنتاج المختلفة، وفي ظل النزعة الريعية، ونتيجة للسياسات الاقتصادية الخاطئة، كان التوسع المفرط في الضرائب والرسوم، مالَ المواطنون كذلك-سواء كانوا أصحاب أعمال-كبيرة كانت أم صغيرة أو هامشية- إلى سلوك ريعي مهد لتوسع الاقتصاد غير الرسمي، في محاولة للتكيف والتغلب مع هذه السياسات القاسية، حيث زادت المبادلات والتعاملات غير الرسمية. وعلى سبيل المثال، شاع الميل نحو "إيجار" كل شيء وذلك لتفادي الضرائب والاستفادة من عائدات الإيجارات هذه مثلا في أعمال أخرى رسمية أيضا تكون غير خاضعة للضرائب الحكومية المجحفة…إلخ، وهو ما حد من ثقافة وروح الإنتاج.

 
* نتيجة لذلك، برزت نزعة "فيزيوقراطية" في السلوك والنشاط الاقتصاديين بالبلاد (أي غدت الارض كمصدر للثروة)، وهو ما نجم عنه بروز شبكات ضخمة ضمن الاقتصاد غير الرسمي؛ فالأراضي التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني، أصبحت مصدرا للثراء وتدوير كتلة مالية ضخمة خارج النظام المصرفي، وكذلك ستارا لعمليات غسيل الاموال، وطريقة لحفظ الأموال! إما لعدم ثقة في الاقتصاد الرسمي أو للقيام بنشاط اقتصاد مربح بعيدا عن الإطار القانوني عند الحاجة للدخول في مضاربة ما (والمضاربة بدورها اصبحت جزء من السلوك والنشاط الاقتصادي غير الرسمي). وفي نفس الوقت غدت الأرض نفسها- بجانب كونها سلعة- قابلة للتداول كمصدر للسيولة النقدية بعيدا عن النظام المصرفي الرسمي.

  
* التوسع في الضرائب والرسوم أديّا "لسياسة إفقار" بمعنى الكلمة، وهزمت تلك السياسة برامج الدولة المعلنة في "محاربة الفقر". وما فات على الممسكين بقرارات الاقتصاد، أن وجود خطط وبرامج لخفض الفقر بشكل ملموس، بات إحدى شروط الاعفاء أو خفض أو إعادة جدولة الديون الخارجية للدول، فالسودان توفرت له فرص كبيرة في هذا الصدد، لاسيما في أعقاب التسويات واتفاقيات السلام العديدة، بيد أنها اضيعت كالمعتاد.
 

قد يضطر المودعون، في ظل سيطرة الهلع وفقدان الثقة في البنوك، ولكي يتفادون خسارة محتملة لمدخراتهم،
قد يضطر المودعون، في ظل سيطرة الهلع وفقدان الثقة في البنوك، ولكي يتفادون خسارة محتملة لمدخراتهم، "التكيف" مع قرار تبديل العملة، ولكن لن تبقى أموالهم في البنوك طويلا
 

* في ظل كل هذه المعطيات التي أتينا على ذكرها، حتى المصطلحات التي روجت لها "الشفافية العالمية" باعتقادي لا تفي بالغرض في حالة السودان. فعلي سبيل المثال، لم يعد الفساد الصغير(الرشوة) أو الفساد الكبير (فساد المسؤولين وصناع القرار خاصة مع الشركات الخارجية)، والمحاباة والمحسوبية…إلخ مصطلحات مطابقة في دلالتها المتداولة مع هذا الواقع. وأنه ونتيجة لفشل السياسات الاقتصادية، وتوسع الاقتصاد غير الرسمي والاقتصاد الرمادي، بات هناك "ثقافة الفساد" و"سلوك الفساد"، و"ممارسات شرعنة الفساد" إلخ.

* المعالجات الشكلية لهذا الخلل الهيكلي الكبير تبقى وصفية كارثية بمعني الكلمة، لأن مدى هذا الانهيار الاقتصادي ومعدلات التضخم المتسارعة تمضي بوتيرة أسرع وقد يصل الأمر مرحلة بأن توصد كافة أبواب الاقتراض من الخارج، واحتمالات إعلان مؤسسات اقتصادية افلاس البلاد وهو ما سيزيد الأوضاع الاقتصادية سوءا مما هي عليه. وهذا السيناريو محتمل وراجح بسبب عدم كياسة المسئولين وتنكبهم تبني الحلول الصحيحة. وأما الشروط السياسية لبعض الدول مقابل تقديم المساعدة- إن تحققت- فلن تكون سواء "مسكنات للألم".

* إن خطوة تغيير الفئات الكبيرة من العملة (فئة الخمسين جنيها) مؤخرا كانت تهدف لاستعادة الكتلة المالية الضخمة والسيولة التي، كما قلنا سابقا، هي تعمل بالمعتاد كنشاط اقتصادي "جديد" خارج الاقتصاد الرسمي. ومؤخرا زادت بشكل هذه الكتلة المالية "الهاربة"، حيث باتت البنوك على حافة الافلاس الحقيقي، فمع تراجع الايداع زادت وتيرة سحب الاموال بشكل جنوني. وأما تبرير قرار تبديل العملة بحدوث تزوير فيها فهو تبرير غير منطقي، لجهة أنه لم تتخذ أي تدابير ضد من يفترض أنهم روجوا تعاملوا أو روجوا هذه العملة المزورة، كما أنه يمكن تزور العملة الجديدة هي الأخرى.

* من هنا، قد يضطر المودعون، في ظل سيطرة الهلع وفقدان الثقة في البنوك، ولكي يتفادون خسارة محتملة لمدخراتهم، "التكيف" مع قرار تبديل العملة، ولكن لن تبقي أموالهم في البنوك طويلا، إذ من المتوقع أن يبدأءون في السحب مرة اخرى تدريجيا، كما اتوقع أن تحاول الحكومة الحد من ذلك بإصدار قرارات بتحديد الحد الأدنى للسحب!! وحتى في حال ذلك، لن تعود الثقة للنظام المصرفي في المدى المنظور.. وبالتالي سوف يستمر الانهيار الاقتصادي في الأفق المنظور من دون حلول!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.