شعار قسم مدونات

الدولة والقبيلة في مفهوم المجتمع الصومالي!

blogs القبيلة الصومالية

مصطلح القبيلة، يُكوَّن أقصى حدود الانتماء في مفهوم الإنسان الصومالي ومنبع فخره، يصل ظله إلى حيث تصل قبيلته. بمعنى أخر، تحل القبيلة محل بطاقات الهوية يعرف بها نفسه. لكن الغير عادل في الأمر هو أن أحدا لم يختر يوماً قبيلته ولم يعط حق الاختيار، وأن الفرق بين طفلين هو أن أحدهما وجد بالصدفة في قبيلة عريقة تنسب نفسها إلى آل البيت بينما ولد الأخر لقبيلة أخرى غير عريقة ودون المستوى، وهكذا قدر له أن يعيش منفيا في بلده. حيث يرتبط الإنسان الصومالي بقبيلته ارتباط الابن بالأم، يحتمي بها ويجد في ربوعها المأوى والأمان ويكبر معه إيمانه الراسخ بمعتقد القبيلة والتسليم المحتم بقدسية سيد القبيلة. والانتماء للقبيلة قبل الوطن.

النظام الاجتماعي لحياة ما قبل الاستعمار

قد ترجع بِنَا الأسباب لطبيعة المجتمع الصومالي في فترة ما قبل الاستعمار، إذ تواجدت كل قبيلة في منطقة معينة متبنية نظامها الخاص وسيدها الخاص. وحين جاء المستعمر عقد اتفاقيات مع سلاطين تلك القبائل على حدة. وكان أول مستعمر تطأ أقدامه الأراضي الصومالية المستعمر الإنجليزي الذي عقد مع سادة القبائل الشمالية سنة ١٨٨٧ اتفاقاً يسمح للإنجليز بالتجارة على ميناء بربرة مقابل أن يحمي القبائل في حال تعرضوا لغزو خارجي.

 

يذكر أن البلاد كانت تشهد في تلك الفترة تهديداً إثيوبيا بعد أن نجحت الأخرى في نفس السنة للمرة الأولى منذ القرن السادس عشر الميلادي في احتلال مدينة هرر التي كانت تعتبر مدينة صومالية بل وكانت عاصمة حضارة مملكة أيفات التي كانت قائمة منذ القرن الثالث عشر الميلادي وتصدت للغزو الإبيسيني على مدار قرون، كانت أهمها حروب الردع التي خاصها الغازي أحمد ضد الحلف الإثيوبي البرتغالي في بدايات القرن السادس عشر.

تعتبر الصومال أول دولة يتم تناقل الحكومة فيها بطريقة ديمقراطية عن طريق انتخابات شرعية للمرة الأولى في تاريخ القارة السمراء

من هنا نستطيع القول بأن ذاك الخوف القائم من اجتياح إثيوبي كان الدافع الأول لعقد الاتفاق مع المستعمر، والذي فيما بعد تكلل بخيبة أمل كبيرة لهم بعد أن نقضها المستعمر بعد عشرة أعوام فقط، وطبق مثل "حاميها حراميها" حين وقع مندوب بريطانيا العظمى في ذاك الوقت جيميس رونال مع مملكة ابيسينيا (إثيوبيا اليوم) في يونيو ١٨٨٧ صلحاً يتنازل فيها عن هرر ومنطقة الهاود ويقدم لهم البلاد على طبق من فضة. مما لا شك فيه أن حالة التشتت البائس الذي كانت تشهدها المنطقة وعدم وجود حكومة داخلية تشمل السلطنات سهلت له أن يرتع فيها كما يحلو له ويرسم الحدود كما يشاء.

تفنن المستعمر في استغلال التنافر القبلي لصالحه، وأصبحت ورقة رابحة في يده لكبح زمام أي تمرد ضده. وذاك أنه عند اندلاع ثورة الدراويش في بدايات القرن العشرين بقيادة الدرويش سيد محمد، بادر بإقامة مؤتمر بين إيطاليا وبريطانيا جمع المستعمرين مع سلطنتي هبيو بإمرة الأمير كيناديد، وسلطنة ورسنجلي بقيادة السلطان محمود شِري، بمدينة بندر قاسم في العاشر من ديسمبر عام ١٩١٠ لتكبيل حركة الدراويش، ليضفي على المشهد وجهاً قبليا أخر. قد تجدر الإشارة هنا إلى الجدل القائم حول حركة الدراويش وكونها لا تخلوا من تجمع مذهبي، وشخصية الدرويش نفسه الذي يصفه البعض بالتشدد وأحياناً بالتطرف لكونه تبنى الطريقة الصالحية وجاء بها إلى المنطقة التي كانت تتبع الطريقة القادرية والأحمدية، مما أضفى على النزاع القبلي، صراعاً مذهبياً. 

الدولة والقبيلة ما بعد الاستعمار

بعد نضال ثمانين عاماً يحزم الاستعمار حقائبه عّن الصومال تاركاً لهم دولة أسست على أنقاضه. ومع أنه كان من البديهي جدا أن يصبح تأسيس الدولة عصيا على مجتمع عاش كقبائل، إلا أنهم بالفعل نجحو في تأسيس هيكل دولي في ستينيات القرن المنصرم. بل وتعتبر الصومال أول دولة يتم تناقل الحكومة فيها بطريقة ديمقراطية عن طريق انتخابات شرعية للمرة الأولى في تاريخ القارة السمراء. لم تماشي الدولة الوليدة حذوها بقيادة الرئيس عبد الرشيد شرماكي حتى فضت باغتيال الرئيس في زيارة رسمية إلى الأقاليم الشمالية. وبعد مدة وجيزة تم الإعلان عن حكومة الانقلاب في الواحد والعشرين من أكتوبر ١٩٦٩ ما سمي فيما بعد بثورة أكتوبر.

الواضح أن حكومة الانقلاب بقيادة الجنرال سياد بري، كانت من جهة العصر الذهبي لنهضة الصومالي، شهدت الصومال نموا اقتصاديا وتعليميا وتفوقا مدنيا وعسكريا، إلا أنه في حد ذاته شهد الشارع الصومالي، حدة قبلية، وتكميم أفواه، واضطهادا دينياً إثر النظام الشيوعي الذي تبناه سياد بري في بداية السبيعنيات. وأدى ذاك كله إلى غليون الشارع الصومالي الذي انتهى بإسقاط الحكومة عام ٩١ وسرعان ما استحالت البلاد إلى فوضى أدت إلى حرب ميلشيات أدخلتها هي الأخرى في دوامة من حروب أهلية ابتلعت الأخضر واليابس.

ومرة أخرى رجعت القبلية إلى المشهد، فقد برزت القبيلة كالمؤسسات التضامنية أو الملاجئ لأبناء المهجر إبان الحروب الأهلية وما بعد الحروب التي شهدت غياب الدولة عن الساحة. ووجد في القبيلة التكفل والرعاية التي لأسباب شتى لم تعد توفرها الدولة البتة. الواقع في الأمر أن فكرة الاحتماء في ظل القبيلة لم تختفي بتأسيس الدولة. بل على العكس لم تتعدى الدولة كونها صورة مكبرة عن التضامن القبلي في عيون المجتمع الصومالي. السيد الرئيس هو ابن القبيلة قبل أن يكون الرئيس أو رمزاً سياسيا لهذا يصبح تأييده واحباً بدافع الانتماء للقبيلة.

كما علمونا في الدين يد الله مع الجماعة، فقد علمونا في الوطن أن يد الله مع القبيلة، "كن مع القطيع تنجوا". ويبرز هذا المشهد بجلاء أثناء الانتخابات. فالمرشح الذي يكسب ود عدد أكثر من السلاطين يحوز على أكثر من الأصوات. يقبض السلطان ما يؤمن به ديمومة منصبه إن أحس بتمرد داخل القبيلة. وحين يؤمن جيبه يقول للمزارع البسيط ابن القبيلة الذي هو في طبيعة الحال فرد من شعب الدولة، أن ينتخب المرشح الفلاني. وفجأة يتحول المزارع البسيط الذي لا يعي على الواقع شيئاً إلى سياسي كبير يعلق في سُوَر مزرعته صورة فلان الفلاني، ويجوب صوب البلاد انتخبوا الرئيس. يفوز الرئيس ويعود المزارع البسيط لمزرعته القديمة وصار كلما مر موكب الرئيس محاذاة المزرعة، هتف للرئيس؛ يحيا الرئيس وقدم حصاد السنة قربانا لموكب الرئيس.

قد يلعب عدم ثقة الشعب بالدولة دورًا مهما في عدم فاعلية الدولة وقد يكون العكس صحيحا، أي أن عدم قيام دولة فعالة في المنطقة يكون سببه النظام القبلي ووجود الطبقية القبلية
قد يلعب عدم ثقة الشعب بالدولة دورًا مهما في عدم فاعلية الدولة وقد يكون العكس صحيحا، أي أن عدم قيام دولة فعالة في المنطقة يكون سببه النظام القبلي ووجود الطبقية القبلية
 

وهكذا يلقن أولاده بعده الولاء للسلطان وللسيد الرئيس للأربعين السنة القادمة، لعصر العبودية القادم. لغد تزين شحوب وجهه شراشف من دم العبيد ليكتبوا التاريخ لأجيال ستورث أناجيل الخضوع جيلا بعد جيل. وهكذا يسطر الشعب قصة بوسه ويحوز مرتبة الشرف الأولى في البلادة! قد يلعب عدم ثقة الشعب بالدولة دورًا مهما في عدم فاعلية الدولة وقد يكون العكس صحيحا، أي أن عدم قيام دولة فعالة في المنطقة يكون سببه النظام القبلي ووجود الطبقية القبلية. لكن المؤكد أن سلطنة سيد القبيلة تلغي مهمة الرئيس، وفكرة الدولة تلغي حاكمية سيد القبيلة.

يكمن السوأل الآن في كيف ينظر أبناء الجيل – جيل ما بعد الحروب – لمفهوم الدولة، وإلى أي عمق يمجدون القبيلة. أبناء جيل ما بعد الدمار يتميزون عن أسلافهم بميزتين:

الأولى: هي نظرتهم للدولة على أنها مشروع فاشل، وأنهم يرون الحروب التي تسن ذاكرتها اليوم على الثلاثين عاماً مجرد ماضي، أو ربما تراجيديا عايشها أجدادهم ويدفعون ثمنها.

والفرق الثاني: هو أنهم يقرؤون، نعم شباب اليوم يقرا ويخوضون ثورة ثقافية، وكلما قرأوا أكثر سقطت بعض المقدسات إلى الحضيض، وشكلت تهديداً واضحاً على معوقات النمو الحضاري كالقبلية السياسية، واستغلال الخطاب الديني لتنويم الشعب مغناطيسيا بجرعات عاطفية.

يَرَوْن في القراءة سلوى عن الحاضر الذي يفرض نفسه عليهم بقوة، عن ذاكرة الحروب والدمار ويتسنى لهم لوهلة أن يمنوا أنفسهم ويراودهم في أن تضمهم أوطانهم حلم صفحة دامية مثلا أو وصمة لن تمحى عن تاريخ بلادهم أو شيئاً يجب أن يبقى في الماضي ولا يمت إليهم بصلة سوى كونه ذكرى! ربما الوقت آن ليأخذوا الأمر بنظرة موضوعية، بحثاً عّن الدولة خارج المعايير التي تنصها النظرة القبلية ويبحثوا عن الرئيس بعيدا عّن مجلس إشراف القبيلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.