شعار قسم مدونات

ماذا سنكون بعد عام وقرن؟

blogs كتاب

نبدأ ميلادنا على سرير طبيّ، وبعد عام وقرن نموت في رفّ فضي، فنحن لسنا إلا مجموعة من كتب ورقيّة، تأخذ حيزاً كبيرا من رف زجاجيّ متين، نحن اقتباسات سيذكرها الآخرين، كل مئة عام مرة، فنتحول في شبابنا إلى بيت ضمن قصيدة شعر، ولحن أغنية يتلوها المحبوب يوما بعد يوم حتى تنتهي المسألة، سنكون يوما نعوة ملصقة، سنكون يوماً أعداء الرياضيات والمَنطقة، سنكون الشواذ لكل قاعدة، سنكون الضمة فوق اسم مجرور وفي جملة موضوع، ونكون الكسرة تحت فاعل افترض أن يكون مرفوع، وصحن فارغ عند كل مائدة.

  

سنكون يا رفاق القوة الجاهدة، وسنكون دموع نساء وأطفال، والأحبة المغرومة، سنكون صورة سوداء الميمنة، ونواح سيدة صامتة لا تدلي إلا بتصاريح ملغومة، سنكون يوما بضع ملابس مستخدمة، سيسعون في توزيعها على الفقراء والمحتاجين، وبعدها نكون ختمة قرآنية تتلى في يومنا الأربعين، لنرحل بعدها من أحاديثهم المبهمة، لا لقاء حتى يوم الدين.

   

سنختفي ولكننا لن نرحل، سنكون فكرة في رأس رجل شارد، ونكون الوحي لكاتب كاد أن يسأل، سنكون تدوينة صغيرة في إحدى مواقعهم، وتعليق لطيف على إحدى منشوارتهم

من يدري! قد نصبح بعدها أخبار تاريخيّة مكذوبة ومحرّفة، في كتاب يرسم فيه المراهق قلب وجمجمة، ويضحك رفيقه على قضيتنا المبدّلة، يدونّها بعض الحمقى والشرذمة، يقلبون الحقيقة للمرة المئة، ويشاركهم المنافقون من السلاطين والحكام وبعض الأئمة، فتغدو الثورات مجرد أزمة، والاحتلال والاستيطان أسخف المسألة، ستغدو الحرية فكر الشيطنة، والعبودية والخضوع ليست إلا مكرمة، ستقلب الموازين يا أحبتي، سيموت الأبطال بلا أوسمة، سيموت الكاتب فقير بلا أطعمة، ويموت الكاذب مختنقاً بالألحمة.

   

سنكون عند أحدهم أمنية، ونكون عند آخر مجرد أمسية، سنكون لقلب أحدهم مرض، ولقلب آخر مجموعة أدوية، سنكون أصدقاء عند أحدهم، مدّ لنا يد العون يوما، سيذكر هذه الحادثة عند أول صدفة، وسيكون لقاؤنا بعدها حلماً، سنكون في قصة أحدهم حربا وفي حياة آخر سلما. سنكون أبا محترما، عمل سنين ولم يسأم، سنكون مراهقا طائشا، صاح الأب في وجهه ولم يفهم، سنكون أم لم تنم، حين مرض الطفل وبدأ الألم. سنكون نجما لا يفنى، بل ينفجر ولا يتبخّر، ونكون شمسا واضحة، تحترق لتنير ولا تتذّمر. سنكون هوية وأوراق سفر، صفحة في دفتر العائلة، سنكون جزء من قدر، مادة مستقيمة في حياة مائلة، وخزينة من حياة قد أنفقت أيام طائلة، سنكون فرداً من قوالب مماثلة، وروحاً عاشت متفائلة، حتى أطالها الموت دون أي مسائلة.

 

سنختفي ولكننا لن نرحل، سنكون فكرة في رأس رجل شارد، ونكون الوحي لكاتب كاد أن يسأل، سنكون تدوينة صغيرة في إحدى مواقعهم، وتعليق لطيف على إحدى منشوارتهم، وقصة إلهام عند كتّابهم، وقصة إحباط عند آبائهم، سنكون خيمة على حدود البلاد، وقضية لأجلها قد أباحوا الجهاد، سنكون أشعة الشمس وسط الجو البارد، وبندقية فارغة بيد جندي عائد، سنغدو يا رفاق صفحة مطوية، تطالعها في المكتبة صبية، ما إن تبدأ في القراءة، حتى يرن الهاتف، يستقدمها المحبوب على عجلة، فتغلق الصبية ذاك الكتاب، وتخرج لتلتقي بالأحباب، وتعيدنا إلى رف المكتبة مرة ثانية، ليوقظنا قارئ آخر، في كل عام وقرن مرة، لا تبلغ الدقيقة والثانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.