شعار قسم مدونات

عقيدة البهلوان (5).. أقوالٌ مستوية وظلٌ مائِل!

BLOGS صلاة الجمعة

ميّزنا الله بالعقل عن سائِر المخلوقات، فمنّا من أحسن إليه، ومنّا من أساء. فالناس درجات، منهم من يحيا لتحقيق هدفٍ ما، ومنهم من يحيا لتحقيق هدف شخصٍ ما، ولكن بطريقة غير مباشرة لا تشعره بأنه يفعل هذا.. من نعم الله على عباده المؤمنين أن أمرهم بالتفكّر والتدبّر في كل معاني الحياة، وفي أدق تفاصيلها بحيث يكون هناك إعمالًا للعقل الذي هو هبة الله لنا، فإما أن يكون خاملًا فتستجيب الجوارح لعقلٍ آخر يحرّكها، أو ينشط هو ويبحث ويحرّك الجوارح والحياة إلى التقدّم والرقيّ.

 

في إحدى الدروس، عن تحقق علامات الساعة، كان المسجد مكتظًا بالجلوس، يعيرون سمعهم وقلوبهم لفضيلة الشيخ، يستمعون إلى النصوص الواردة، والنصائح الثمينة من فضيلته بأن لا ينساقوا خلف ترّهات الملاحدة لأنها تحمل مجهولًا مخيفًا وخطرًا كبيرًا، وهو لا يدري أن محاولة إقناعهم هو انسياق فعليّ كبير بل وأكثر خطرًا عليهم! تطرق الحديث إلى الأرض وكينونتها، فتكلّم الشيخ بما يعلم، أو من وجهة نظره، وتحوّل الدرس من علامات يوم القيامة، إلى محاضرة في علم الفلك، وذهب إلى مكانٍ بعيدٍ جدًا عن الذي بدأ فيه، في محاولة منه لإقناع الجالسين أن الأرض ليست كروية وبأن لا يسلموا عقولهم للنظريات التي تُثبت ذلك، ليس لأن معهُ دليل بإثبات عكسها ولكن لأن من قالوا هذا كفرة وملاحدة!..

                    

لنقل أن البعض منهم يسلّمون لكلامه كونه "الشيخ المُبجّل" الذي قد يرونه لا ينطق عن الهوى، والبعض الآخر لا دراية لديهم بعلم الفلك وعلم الأكوان، فيسمعون كلامه ويصدقونه دون علمهم أن ما يفعلونه هو نفس الانسياق الذي حاول جاهدًا أن ينهاهم عنه.. لسنا هنا في محاولة لإثبات صحة الكلام أو عكسه، وليس هو موضوعنا الآن، بل جئنا لنعرض فكرة احتقار الرؤية الدينية، وكيف استطاع البعض من العلماء والمشايخ، رسم طرق للعامة يسيرون فيها دون التفات، طرق خاضعة لأشياء أخرى كثيرة، منها معتقداتهم الشخصية، أو تعصّبهم لرأيٍ أو مسألة..

 

نظرة العامة للعارِف بالدين ستظل هي الحائل الوحيد بينهم وبين علمه، حيث أصبح العامة لا ينظرون إليه أنه حامل رسالة أو واعظٍ وإنما هو العالم الجليل المُبجّل الذي لا يشوبه خطأ
نظرة العامة للعارِف بالدين ستظل هي الحائل الوحيد بينهم وبين علمه، حيث أصبح العامة لا ينظرون إليه أنه حامل رسالة أو واعظٍ وإنما هو العالم الجليل المُبجّل الذي لا يشوبه خطأ
 

الغلو عند بعض المشايخ أو علماء الدين، وتقديم كلامهم وفتاويهم على أحاديث رسول الله، والتكلم بألسنتهم والحلف بعلمهم وأحيانًا بهم، وتنكيل وبغض من يعارضهم أو لا يتبعهم!، هي فكرة حديثة العهد تستهدف تلك الفئة من الملتزمين حديثًا، حيث تدفعهم غيرتهم على دينهم وحميتهم تجاه قضيّتهم إلى هذه الأفعال التي تبعدهم عن محور القضية الأساسية وهي التوحيد!.. ما فائدة العقل إن كان الأمر سيملى عليك ومن ثم تقوم بتطبيقه كآلة؟… في بعض الأمور يجب أن يكون للمرء دور في أن يجتهد ويعرف إن كان هذا الكلام (خاصة الأمور الخلافية) صحيحًا بإسناد أو هو مجرد افتراءات، لم نخلق لنقول كما يقول الناس ولسنا أقل شئنًا ممن قدموا أعمارهم وأنفسهم فداءً للبحث والمطالعة وتقديم ما هو خالص وينفع الناس!

 

وليست هذه دعوة للبحث في كل ما يتعلق بالدين من ثوابت كالصلاة والزكاة والصيام والحج إلخ.. من ثوابت متفق عليها، بل يجب علينا كمسلمين أن نكون على علم بها وعلى دراية كاملة بكل تفاصيلها، وإن كان غير ذلك فهي طامة كبرى، كيف لمسلم أن يكون مسلمًا وهو لا يعرف إسلامه!.. نظرة العامة للعارِف بالدين ستظل هي الحائل الوحيد بينهم وبين علمه، حيث أصبح العامة لا ينظرون إليه أنه حامل رسالة أو واعظٍ وإنما هو العالم الجليل المُبجّل الذي لا يشوبه خطأ.. فبدلًا من أن يضعك العالم أو العارف بالله على طريق الحق ويتركك تبحث وتعي وتفهم، يأخذك من يدك ويكأنه يريدك أن تلتزم الصمت طوال الرحلة، لتأخد ما أملاه عليك وتمضي تطبِّق دون وعي أو محاولة فهم!..

 

وما نتاج هذا؟ أصبحنا نخشى الإلحاد المنتشر في جنبات البيوت، ذلك الجيل الذي نشأ على حفظ النصوص دون فهمها الصحيح لتطبيقها كما يجب، كما لو أنهم بالفعل كانوا يريدون منا ذلك!.. لمنهجية التعلم بالحفظ دون الفهم سلبيات لا تحصى لا داعي لذكرها الآن ولكن عواقبها وخيمة ومنها الإلحاد المنتشر بين فئة من الشباب كانوا يحفظون النصوص الدينية والقرآن الكريم، ولكن حفظ للحفظ وليس حفظ للفهم.. بين الجالسين في هذا الجمع أناس لا تستطيع محاورتهم ونقاشهم في مسألة ما أملاها عليهم فضيلة الشيخ، وهذا ليس لأن الشيخ يريد ذلك، ربما هو لا يقصد أن يجعلهم ينساقوا بهذه الطريقة ولكنهم هم من يعتقدون أنه لا جدال فيما قاله الشيخ، أو من أنت حتى تعلم أكثر منه، ومثل هذه المفاهيم الباطلة التي تحرمهم من الكثير من العلم والمعرفة..

 

أحيانًا نحتاج إلى وقت لإدراك أمر ما كنا نظنه على غير حاله، تحكمنا العاطفة تجاه كل شيء، فنرفع ونضع ونمجّد ونهلل ورائها بعلم أو بدون علم بقصد أو بدون قصد، نمجد أشخاصًا ونضع آخرين وكأننا جميعًا نعلم أين الخير وأين الشر أين الصواب وأين الخطأ، كأننا جميعًا عاريين عن الخطأ، ولا نمت لفئة الإنسان بصلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.