شعار قسم مدونات

مخيم الشهامة.. العيد في خيمة الإقامة الجبرية!

blogs العراق مخيم الشهامة

كلما جاء عيد الأضحى المبارك، ارتفعت نسبة التعاطف مع الحيوانات لاسيما المواشي والأبقار والإبل، بسبب إقدام المسلمين على ذبحها كأضاحي وتقديمها قرابينا لله تيمنا بشعائر الحج، لا أدري إن كان الأمر من مبدأ "خالف تعرف" عبر مهاجمة أو مخالفة طقوس المسلمين، أم أن الأمر فعلا متعلق بإنسانية هؤلاء الذين لا يمانعون أكل "السندويشات" ووجبات الطعام الجاهزة التي تتكون معظمها من لحوم الحيوانات، لكن ماذا عن لحوم البشر؟ ألا تستحق وقفة للتضامن معها؟ ألا يتوجب على الجميع قول "لا" لما يحصل مع بشر يتم وأد حياتهم أمام الملأ ووفق أهواء من ساقهم نحو عيش الذل والهوان وسلبهم حياتهم بلا أي حق!

 

تنص المادة 15 من الدستور العراقي النافذ على: "لكل فردٍ الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرارٍ صادرٍ من جهةٍ قضائيةٍ مختصة". وتنص القاعدة الإلهية في سورة "فاطر" الآية – 18 على: " وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ".

 

وبالرغم من الإجماع في الدستورين، "الإلهي والوضعي" على عدم محاسبة شخص بجريرة غيره، فإن التطبيق على الأرض لا يمت إلى ذلك بصلة، ففي العراق حرم سكان مناطق تضم مئات الآلاف من المواطنين من العودة إلى بيوتهم وأراضيهم التي هجروها رغما عنهم بسبب المعارك المسلحة وسيطرة داعش على تلك الناطق، وعلى الرغم من مضي أكثر من عام على وضع الحرب أوزارها فإن الأهالي لم يعودوا لمساكنهم، ومناطقهم ما زالت خاوية على عروشها، بعد أن فجرت وسرقت معظم منازلهم وتدمرت أخرى بالقصف والمعارك.

 

عشرات الأطفال والنساء بمخيم الشهامة بلا أي ذنب! لا يعرفون أي القوانين حكمت عليهم بالنفي في هذا المكان الموحش، يتشاركون جميعهم دورة المياه والألم وظلم الحكومة والمشرفين على المكان

الأعياد تمر بطعم العلقم على النازحين في المخيمات كمعظم أيامهم، عيدهم بلا ملامح، وحضوره لا يزيدهم إلا وجعا يضاف لوجعهم المستمر منذ سنوات، كيف لهم الفرح وحالهم يرثى له؟ كيف يمكن أن تطوف السعادة في خيمة مهترئة لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء؟ من منهم يستطيع إقناع أطفاله بقدوم العيد وهو لم يوفر لهم ملابس العيد ولا الحلوى، ولا حتى أبسط مقومات السعادة؟ ومن يستطيع الفرح بعد أن غرس الحزن جذوره في وجهه، وامتد الوجع في أعماق صدره حتى صارت الأعصاب حبالا لعزف أنغام المبتلى، المخنوق، المغصوب، غير القادر على إيصال صرخة مظلوميته للعالم.

 

شمالي مدينة تكريت وضمن حدودها الإدارية وبجوار أكبر صرح علمي بمحافظة صلاح الدين "جامعة تكريت" وبمنطقة تدعى "الشهامة"، يوجد مخيم "بشطرين" يضم عشرات العائلات، وهذا أنموذج "خاص" بوضع خاص، حيث قسمت السلطات العائلات في هذا المخيم إلى قسمين، الأول يضم النساء والأطفال، والثاني يقبع فيه الشباب والرجال، أما عن خصوصية هذا المخيم فهي متعلقة بارتباط العائلات بتنظيم داعش، حيث جمعت الجهات الحكومية هذه العائلات من عدة محافظات، من بينها صلاح الدين والأنبار وكركوك ونينوى، بسبب اتهامها بوجود صلة بينها وبين عناصر ينتمون لداعش، والمفارقة أن جميع المقيمين في المخيم لا ينتمي أحد منهم للتنظيم، لكنه متهم بانتماء أحد أفراد أسرته أو أقاربه لداعش!

 

مخيم الشهامة ليس له من اسمه نصيب، فبين خيمه البائسة قصص يشيب لها الولدان، فبعد ما قرأته في تقرير المنظمة الدولية لحقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتش" من انتهاكات واغتصاب وتعذيب جنسي وجسدي يطال النساء والأطفال هناك، حاولت الوصول لداخل المخيم لمعرفة حقيقة ما يجري، وكانت الحقيقة صادمة وتفسر ما يحصل في هذا البلد من ظلم واضطهاد وسلب للحقوق والأرواح، عشرات الأطفال والنساء مسجونون بلا أي ذنب! لا يعرفون أي القوانين حكمت عليهم بالنفي في هذا المكان الموحش، يتشاركون جميعهم دورة المياه والألم وظلم الحكومة والمشرفين على المكان، إحدى نساء المخيم من الموصل، كان زوجها عقيدا في الجيش وقتل، فيما شقيقها ينتمي لداعش، تم سجنها بخيمة لا يتوفر فيها سوى "بساط" قديم لتنام عليه!

 

وأخرى أم لسبعة أطفال كان زوجها يعمل موظف خدمات بمستشفى الحويجة جنوبي كركوك قتل أثناء القصف على المستشفى وبقيت أرملة، تم اعتقالها واقتيادها مع أطفالها لهذا المكان بتهمة أن زوجها "داعشي"!، وقصص أخرى وصلتني جميعها مصورة لنزلاء من مخيم "عائلات داعش" كأول تسجيل مصور يخرج من هذا المخيم، حيث يتساءل أحد أطفال المخيم بالجانب الذي يسكنه الرجال وهو من محافظة الأنبار عن سبب وجوده هناك!

 

وما ذنبه إذا كان عمه ذهب إلى صف داعش؟ يقول لماذا حرمت أنا وعائلتي من حقوقنا والآن جميع أقراني في المدرسة وأنا داخل هذا السور!، وبجريرة شقيق زوجها مسجونة امرأة مع أطفالها وأمها بعد أن هرب زوجها خوفا من اعتقاله أو قتله للسبب ذاته على الرغم من أن جميع المسجونين أو الهاربين ليسوا ضمن عناصر التنظيم! وفِي المخيم قصص كثيرة لعل أغربها هي لرجل من منطقة جنوبي مدينة بيجي دائن لشخص بمبلغ كبير ولديه وثائق تثبت ذلك ولكون الشخص المدين له ينتمي لإحدى فصائل الحشد الشعبي رماه في مخيم "اعتقال" عائلات داعش!، هنا لا سلطة تعلو على سلطة شريعة الغاب، كما يقول هذا الرجل الذي لباسه العربي فقط يدل على اسم المخيم، أما باقي التفاصيل فهي من عصور قد خلت.

 

في مخيم الشهامة لا يمكن للنزلاء الخروج بحرية وعليهم البقاء داخل أسواره الإسمنتية، والمريض يجب مرافقته من أحد العناصر الأمنية للمخيم إلى المستشفى وسط المدينة، وهذا ما أكدته إحدى النساء التي كاد أن يموت طفلها بسبب سوء التغذية وعدم توفر حليب الأطفال، ما دعا الطبيب بمستشفى تكريت إلى طلب مبادلته بهذا الطفل النزيل في المخيم لحين انتهاء علاجه والسماح له بالرقود في المستشفى!

 

أما عن حالات الاغتصاب والتحرش والمساومة على الشرف، فما تجرأت إحدى النساء على ذكرها سوى فتاتين في العشرينيات من العمر وهما شقيقتان وصل بهما الحال إلى محاولة الانتحار مرتين بسبب محاولات المدير السابق للمخيم والضابط المسؤول عن أمن المخيم الاعتداء عليهما وتكرار محاولات إجبارهما على القبول بعروض جنسية مقابل بعض الخدمات، فهما زوجات لمقاتلين في داعش قتلا خلال معارك جنوبي الموصل ولديهما أطفال صغار هددتا بحرق نفسيهما مع أطفالهن في حال كرر ضابط أمن المخيم وهو برتبة عسكرية "صغيرة" محاولة الدخول إلى خيمتهما، لكن في الوقت ذاته أكدتِ الشقيقتان أن مدير المخيم الحالي وضابطا كبيرا في قيادة الشرطة عاملوهما باحترام ولَم يعتدوا عليهما بشيء، متسائلات عن سبب وجودهما في هذا المكان مع أطفالهما بالرغم من عدم ارتكابهما أي ذنب وزوجاهما المطلوبان تم قتلهما!

 

ذكرت هذا المخيم لخصوصيته وللظلم الكبير الذي وقع فيه على أشخاص بجريرة غيرهم، فما كان إبراهيم إلا عبدا من عباد الله الصالحين وكان أهله يصنعون الأصنام ثم يعبدونها ومثله كثر، لم يكونوا كقومهم أو عائلاتهم. وحتى لا يتمادى الظالم ويؤكل الجميع، علينا أن نرفض التهجير القسري وسلب الحقوق والممتلكات والاعتداء على الحريات، وذلك يتطلب تطبيقا في القول والفعل لا شعارات منظمات وأفراد، ولا نصوص في الكتب فقط، نعم جرأة الطرح تؤذي صاحبها لكنها صوت من لا صوت له، ولعل الصوت يصل إلى السماء إن لم يسمعه أحد، سواء بصرخة أو حتى شهقة من طفل رضيع أو امرأة ثكلى أو شيخ هرم، وعندها لا ينفع التجديف إن غرقت السفن وخاب الرجا، فعلى الشهامة السلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.