شعار قسم مدونات

أين ذهب حمار جحا؟!

midan - جحا

سكنَ جُحا داراً قديمةً، كان سقفها يُحدثُ قرقعةً، وعندما اشتكى إلى صاحبها، قال له: لا تخف! إنَّ السقفَ يُسبّح الله، فقال له جحا: هذا الذي أخشاه، أنْ تُدركه رقّةٌ، فيسجدَ علينا.  لا يوجدُ رأيٌ جازمٌ في المراجعِ التاريخيةِ على العصرِ الذي عاشَ فيه جُحا، تَراه يُلقي النكات في العصرِ الأموي والعبّاسي وفي وجه الحجاج وتيمورلينك، كلُّ ما نعرفُه أنَّه كانَ حاضراً في كلِّ عصرٍ استبدّت السلطةُ فيه على الناسِ، أمّا هيئته يرتدي عمامةً باليةً وثوباً مرقّعاً ويمتطي عصا حصان أشعثٌ أغبرٌ يُعلّق حول خصره حقيبةً قماشيةً يُسمّيها حقيبة اليتامى. 

جُحا المواطنُ نصفُ المعتوهِ نصفُ الحكيمِ، الذي يقولُ ما لا يعني ويعني ما لا يقول، المتوّرطُ بلسانهِ الآمنُ من سخط الحكّامِ والقضاةِ فقد رُفعَ القلمُ عن المجنونِ فكيف يدينوه بكلمةٍ لا يعقلها!  سُئلَ جُحا: أيُّهما أفضل المسيرُ خلفَ الجنازةِ أم أمامَها؟! أجابَ: لا تكنْ في النعشِ وسرْ أينما تشاء. هي رسالةٌ شديدةُ اللهجةِ إلى الفقهاءِ الذين انشغلوا عن الحكمِ في ترفِ البلاطِ الحاكم وظلمِ الولاةِ والقضايا المهمةِ في دولةِ الخلافة إلى النظرِ في حكم كلّ خطوةٍ يخطوها الناس، حتى أصبحت حياتهم تُكال بميزان الحلال والحرام لا فسحة فيها لعفوية الحياة. إنّ نوادرَ جُحا لم تَكنْ تسخرُ من مآسي الناسِ ومعاناتهم، فظاهرها مضحكٌ وباطنها موجعٌ، كانت رسائل ملغومةً إلى السلطةِ التي قيَّدت حرِّية الرأي، وحَكمتْ الناسَ بقوة السيف. سَألهُ تيمورلينك مرّةً: أينَ تَرى مثواي في الآخرةِ؟! فقالَ جُحا: أين تراهُ يكونُ إلّا مع جنكيز خان وفرعون والنمرود والاسكندر. ففرعون والنمرود اللذان تحدَّثَ عنهما القرآنُ كنموذجين للطغيان والظلمِ، لا يتردَّد جُحا في تسليمِ تيمورلينك نيشاناً يلازمهُ التاريخ كلّه بضمِّه لهذه القائمة.

في عصرنا اتخذَ جحا شكلاً آخراً يتناسبُ مع الإمكانيات الإذاعية، إنّ البرامج الإذاعية الوطنية الساخرةِ هي صورةُ جُحا في القرنِ الواحدِ والعشرين.

ذات مرَّةً حملَ جُحا أوزه مشويةً إلى أميرِ حلب، وأثناء سيرهِ غلبَهُ الجوع فأكلَ إحدى رجليها في الطريقِ، وعندما سأله الأمير عنها، زعم جُحا أنَّ الإوز كلُّه خلقهُ اللهُ برجلٍ واحدةٍ في حلب، ثمَّ أشارَ إلى سربٍ من الإوز في حديقة الأمير، وكانَ الإوز قائماً على قدمٍ واحدةٍ كعادته وقت الراحة. نادى الأميرُ جندياً من حرسهِ وأمرَه أنْ يهجم على سرب الإوز بعصاه، فما كاد يفعلُ حتى أسرع الإوز على قدميه الاثنتين. ثمَّ قال الأمير لجُحا: هل رأيتَ الآن أنَّ الإوز في حلب خلقه الله بقدمين وليس بواحدةٍ؟ قال جُحا: مهلاً أيَّها الأمير، لو هجمَ حارسكَ على انسانٍ بهذه العصا، لجرى الإنسانُ نفسه على أربعٍ. إنّ هذه القصَّة تعكسُ تقرَّب الضعفاءِ إلى الحكّام بأفضل ما لديهم لأخذ حقوقهم – رغم حاجتهم – وتعكس أنّ العصا هي عون السلطان على الناسِ، وتبدِّل طبيعتهم الإنسانية، فهذا الفرد الذي يمشي على اثنتين بالاستبدادِ والإخضاع يمشي على أربعٍ، كدليلٍ على ما تستطيع العصا فعله بالناس.

يقول الصادق النيهوم في كتابه (محنة ثقافة مزوّرة): "إنِّ نودار جُحا هي منشوراتٌ سياسيةٌ، معروضةٌ للتبادل بين المواطنين، على لسان نموذجٍ صحيحٍ واحدٍ، يُمثّل كلّ مواطن على حدة" وبرأيي المتواضعِ شخصيَّة جُحا لم تَكنْ موجودةً في الأصلِ، بل هو شخصيةٌ وهميةٌ صنعها الناسُ كي يُلقوا همومهم عليها وتنطقَ باسمهم دون أنْ يُعاقبوا على كلامهم، إنَّها صوت الناسِ في الأزقّةِ، في تمتماتِ الليل، حديثُ المساجينِ، سخريةُ المظلومين، معاناة الفقراءِ، جُحا لم يتدخَّلْ في خلافِ الطوائفِ أو في قضايا الفقه، بل نذرَ نفسه لردّ الظلمِ عن الناس، وكان مجنوناً فلا يوجد عاقلٌ يقول ما يقوله جِحا ويظلُّ حيَّاً في عصرٍ حُكمتْ الناسُ فيه بالسيف. يشير الصادق النيهوم على اختفاءِ شخصيةِ جُحا من الأدب العربي الحديث، وأقولُ: أنَّ قدر جُحا مربوطٌ بأقدارِ الناس في كلِّ عصرٍ، ففي عصرنا اتخذَ شكلاً آخراً يتناسبُ مع الإمكانيات الإذاعية، إنّ البرامج الإذاعية الوطنية الساخرةِ هي صورةُ جُحا في القرنِ الواحدِ والعشرين. إلاّ أنّ هناك عدّة تطوراتٍ على هذا الـجُحا الحديث، أولها كان جُحا القديمُ مجنوناً فأمنَ العقابَ واستمرَ في بثِّ نوادره، أمّا جحانا عاقلٌ تحت حماية حرّية الرأي، لكنَّ صوته خافتٌ نظراً لاجتزاء هذه الحرية. كما أنَّ جُحا القديم كانَ يستندُ إلى أساسٍ في نوادره له سلطةٌ فوقَ الحاكمِ والولاةِ مرجعه القرآن والسنة، بينما جُحانا أساسُه القوانين والتي هي رهنٌ بيدِ الحكّامِ والولاةِ

وأخيراً أترككم مع إحدى نوادره وأترك حرّيةَ التأويل لكم: قد بلغ من غضب جُحا على أئمةِ الجوامعِ نظراً لخطبهم البعيدة عن واقع الناس ومشاكلهم، أنَّه قتل ذات مرَّةٍ إماماً، ورمى جثّتهُ في بئرٍ، لكنَّ أمَّهُ شاءتْ أنْ تُنقذهُ من عواقبِ جريمتهِ، فأبعدتْ جثّةَ الإمامِ، ورمتْ في البئرِ جثّةَ تيسٍ، وعندما جاءتْ الشرطةُ للتحقيقِ مع جُحا، اعترف لهم مباهياً بما فعلهُ، ونزلَ إلى البئرِ لكي يُريهم جثّةَ القتيل. في قاع البئرِ وجدَ جُحا جثّةَ التيس، فرفعَ رأسهُ لكي يسألَ الشرطةَ قائلاً: اللحية هي اللحية، لكن هل كانَ للإمامِ قرون؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.