شعار قسم مدونات

من غزة نبع النبالة!

blogs - معاناة غزة

يسدل العام الحادي عشر ببطيء ستاره على مشهد من فصول معاناة الشعب الغزّي، وبنظرة العالم العربي الجانبية العابرة إلى ما يعيشه هذا القطاع تتراءى لنا مفارقات التعامل معه ومبادرات التخفيف عليه المحتشمة والمتراجعة بحجم مبادرات التضييق عليه من قبل الجيران قبل الأعداء، فهل كان مفهوم الصمود عندنا بقدر صبرهم رغم خذلاننا أم بقدر صبرهم رغم مساعدتنا؟

فإذا علمت أن تعداد سكان قطاع غزة يبلغ أو يقرب من مليوني نسمة وأن 53 بالمائة منهم حسب الإحصاءات فقراء وتزداد نسبة الفقر المدقع بينهم إلى 30 بالمائة مقارنة بسنة 2011، وأن مؤسسات أممية ترى القطاع غير صالح للسكن للآدمي بحلول 2020 إذا استمر الحال على ما هو عليه. اتضح لديك جانب مرعب من الواقع اليومي للساكنة هناك وأن هذا الشعب يجهد على الرمق في حفظ حياة أفراده، ثم أضف إلى ذلك أزيد من 330 أسير في سجون الاحتلال وقتلى وجرحى تتراوح أعدادهم حسب التصعيد أو التهدئة زيادة على مشاكل الإمدادات بالكهرباء والماء والمعدات الطبية وتضييقيات جيش الاحتلال والاحتجاز التعسفي والتشريد في ترسيم عام لأدق تفاصيل الحصار العسكري والاقتصادي والاجتماعي، وفي مجرى تلك الإحصاءات والحقائق التي تدفعك إلى الحزن والحسرة، تعصف بأفكارك مجموعة من التساؤلات التي قد يكون منها: لماذا لا يتنازل الغزّيّون عن بعض حقوقهم ويقيموا هدنة مع الكيان المحتل تحفظ عليهم أرواحهم وحياة أبنائهم إلى حين؟

فالغزّيّون بالأمس واليوم جعلوا القضية عقيدة إيمانية كبرى، ولم تكن يوماً عقيدة عابرة أو فكرة آنية طارئة. فقدموا لأجلها التضحيات وصبروا لأجلها السنين فأعطاهم ذلك الدافع ليحافظوا على مكتسباتهم

إن الروح الدافعة لدى أهل غزة أصعب من أن يصفها أحدنا، لأننا لم نرتق بعد لتلك المراتب التي يعز على الأكثرين بلوغها، ويمكن لمن أطلق لسانه أو ترك قلمه يسيل حبره أن يسهب في وصف ما هم عليه قياساً على روحه التنظيرية التي لم تعش عشر ما هم فيه. ولكنها وإن كانت مرصعة بأحسن الألفاظ المهيجة للعواطف أو الساكبة للدموع، فإنها لن تتعدى كونها نصوصاً أدبية تغلب عليها الصور البلاغية لا الصور الحقيقية لما عليه الغزّيّون. فإذا مضينا -تجاوزاً- لنقرأ أصدق ما قد يكتب في هذا الباب فلن يكون أدل عليه مما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) حين جزم بأن المجد لا ينال إلا بالبذل، ليضيف واصفاً أهم أنواعه الذي فيه "بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق وحفظ النظام ويسمى مجد النبالة، وهذا أعلى المجد وهو المراد عند الإطلاق، وهو المجد الذي تتوق إليه النفوس الكبيرة وتحن إليه أعناق النبلاء، وكم له من عشاق تلذ لهم في حبه المصاعب والمخاطرات وأكثرهم يكون من مواليد بيوت نادرة، حمتها الصدف من عيون الظالمين المذلين، أو يكون من نجباء بيوت ما انقطعت فيها سلسلة المجاهدين وما انقطعت عجائزها عن بكائهم".

فالغزّيّون بالأمس واليوم جعلوا القضية عقيدة إيمانية كبرى على حد تعبير غوستاف لوبون، ولم تكن يوماً عقيدة عابرة أو فكرة آنية طارئة. فقدموا لأجلها التضحيات وصبروا لأجلها السنين فأعطاهم ذلك الدافع ليحافظوا على مكتسباتهم ويحققوا انتصارات عديدة على قلة العتاد والعدة ودوّلوا قضيتهم رغم الصعوبات. وحماس تجسيداً لقول الشيخ أحمد ياسين رحمه الله لم تعد تنظيماً أو فكرة بل صارت اليوم حقيقة وواقعاً وتياراً شعبياً كبيراً وضخماً لها عمقها الذي يتسع كل يوم. ومن هناك كان هذا التيار الشعبي أكثر إيماناً بحريته وأكثر إصرارا على "مسيرات العودة"، من قول إيتيان دو لا بويسي "إننا لم نولد وحريتنا ملك لنا فحسب، بل نحن مكلفون بالدفاع عنها!" فصار القطاع اليوم يشكل هاجساً حقيقياً لحكومة الاحتلال لاستعصائه عليها من طريق الأرض والإنسان فالعزة والقوة والمنعة كلها تعريف مثبت لهذا البلد وأهله.

وبينما يواصل الغزّيّون مقاومتهم وصمودهم نتساءل كمسلمين هل آمنا بقضيتهم حقاً كما آمنوا هم أنفسهم بها؟ أم قبل ذلك هل أدركنا درجتهم فآمنا بقضايانا الداخلية التي تحررنا من ربقتنا؟ وقبل أن نتظاهر بإحساسنا العميق بمعاناة الشعب الغزّيّ توجب الإحساس العادي بمعاناة الشعوب العربية التي تئن تحت سطوة أبناءها! فالوضع العربي الحالي لا يمكن أن يساعد الفلسطينيين ولا الإنسان العربي بعمومه، فهلا نظرنا بجد لكل ذلك؟، والحقيقة أن حركات الشعوب العربية توجهت في غير طريقها المقصود وراحت تتلاشى فعاليتها بمرور الأيام ليعودوا لنقطة الانطلاق بسرعة فهي "جماهير محافظة" بتعبير غوستاف لوبون يضاف إليها عامل السرعة. فمجد النبالة في طلب الحرية لا يكون في أول المطاف بل في آخره حين تتشبع العقول والقلوب بالعقائد الموحدة للأفراد، لذلك أورد الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" أنه تقرر لدى الحكماء "أن الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأما التي تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئا.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.