شعار قسم مدونات

أولاد حارتنا.. صراع الظلم والعدالة

blogs أولاد حارتنا

أحدثت الرواية ضجة كبيرة بعد صدورها على شكل سلسلة مقالات في جريدة الأهرام المصرية 1959، ما زاد في إثارة الرواية الأسلوب الذي اتبعه الأديب نجيب محفوظ، الذي تسبب له بالكثير من المشاكل كان منها محاولة اغتياله عام 1994 حسبما أوردت جريدة الأهرام حينها، الملفت في الرواية أن هناك تشابه قريب بين أبطال القصة مع قصصٍ لأنبياء بحيث أن المطلع والقارئ لقصص الأنبياء سيتمكن من ربط الأحداث ببعضها مع وجود اختلافات وفروقات في الرواية، لم أطلع على رأي علماء الدين بخصوص ما قالوه عن هذا التشابه ولن أخوض في نقاش أو سجال حول هذا الموضوع فقد نال من الدراسات والانتقاد منذ أن صدرت وحتى قبل وفاة الأديب بالأخص في قضية قول معارضي الرواية أن نجيب محفوظ قصد بالجبلاوي الذات الإلهية "وإن لم يتبين لي ذلك" أما هو فكان رده أن الجبلاوي يمثل الدين وعرفة يمثل العلم.

وأن المجتمع عندما ترك العمل بالدين (أوامر الجبلاوي) واتبع العلم فقط (عرفة) تسبب ذلك في ضياع المجتمع، أما الصدام الآخر جاء من طرف من فسر فساد الناظر بنظام الحكم المصري حينها برئاسة جمال عبد الناصر، منعت الرواية من النشر ككتاب في مصر بسبب الجدل الذي دار حولها، وفي عام 2006 أي بعد وفاة الكاتب بأربعة شهور قامت دار الشروق بطباعتها.

تعتبر الرواية عمل أدبي مميز يستمر صدى مضمونها حتى فناء البشرية فهي عبارة عن ظاهرة اجتماعية تتجدد باختلاف الأزمنة والمجتمعات، تتحدث عن حارة الجبلاوي، والجبلاوي صاحب وقف وأموال طائلة يمتلك بيتاُ كبيراً يعيش فيه مع ذريته وزوجاته ومع مرور الأيام يحدث أن يغضب الأب على ابنيه إدريس وأدهم ثم يطردهما من البيت الكبير، ومنهما تبدأ القصة أحدهما يمثل الشر والآخر يمثل الخير.

اختلفت الشخصيات والزمان لكن الدوافع والوسائل ما تزال نفسها؛ أحداث حارة الجبلاوي ليست قصة واقعية بقدر ما هي قصة مختلقة تترجم سلوكيات المجتمعات الفاسدة خارج الإطار الزمني

تتكاثر أجيال إدريس وأدهم شيئاً فشيئاً وتنشأ الدور بجوار البيت الكبير ليصبح هناك عدة حارات متجمعة حول البيت الكبير كلها من ذرية الجبلاوي، والجبلاوي منعزل عن الحارة تاركاً شئون الوقف للناظر، مع تعاقب الأجيال ينتشر الفساد في المجتمع بسبب ظلم الناظر ومساعدة الفتوات له، ولما كان الحق والباطل في صراع دائم على مدى العصور تظهر شخصيات من المجتمع تحاول إعادة التوازن والعدل إلى الحارة أبطالها (جبل، رفاعة، قاسم).

ضمن هذه الأسطر نتناول الفكرة الجوهرية للرواية احتكار السلطة من قبل فئة قليلة وفساد المجتمع بسببها، حيث أن شخصيات الرواية ما تزال تتكرر في عصرنا الحالي الناظر يمثل الحاكم؛ والفتوة الجهاز الأمني والإعلامي؛ والمصلح رجال الفكر والنشطاء الاجتماعيين، والشعب مازال على حاله سواءً في وقتنا الحاضر أو حسبما صوره الأديب؛ شغله الشاغل حياة تسودها الاستقرار وتوفر مقومات العيش الضرورية والرفاهية التي تضفي الجمالية على واقعه.

اختلفت الشخصيات والزمان لكن الدوافع والوسائل ما تزال نفسها؛ أحداث حارة الجبلاوي ليست قصة واقعية بقدر ما هي قصة مختلقة تترجم سلوكيات المجتمعات الفاسدة خارج الإطار الزمني، ما يزال الناظر/ الحاكم يسعى في بسط نفوذه والسيطرة على موارد الدولة بمساعدة الفتوة/ الجهاز الأمني الذي يستخدم القوة والعنف، فهو يعمد إلى قمع الحريات وكبت الأفواه بسجن كل معارضيه أو سحب جنسيتهم فالمشهد السياسي الذي تمر به المنطقة يخبر عن رؤساء يسعون إلى تثبيت سلطتهم وآخرون يحاولون الوصول إلى السلطة بواسطة الفتوة/الجهاز الأمني أو الإعلامي.

المتغير الجديد نلحظه في أسلوب الفتوة الذي تطور من استخدام العنف والترهيب _مع التحفظ عليها_ إلى استخدام قوة من نوع آخر وهي استمالة العواطف وخداع العقول التي يقوم بها الإعلاميين ومن يصنفون ضمن مفكرين ومثقفين يعملون بشكل دؤوب في طمس الحق وتزين الباطل للجماهير ما يجعلنا نتصور في ظهور نوع جديد من الفتوة المتمثل بإعلاميين يفتقرون للمهنية ومفكرين مستأجرين.

في الرواية ذكر الأديب أن دور الفتوات كان جمع الإتاوات وحماية الناظر من المعارضين وإخضاع الشعب للذل والمهانة حتى لا تسول لهم أنفسهم التفكير بشؤون الوقف، أما الموضة المعاصرة التي يعتمدها الإعلاميين هي تلميع صورة الحاكم في القنوات وتجييش مؤسسات وأفراد يعملون على تحسين صورة الحاكم في مواقع التواصل الاجتماعي وكأنه هارون الرشيد أو عمر بن عبد العزيز، ومن الأساليب المستخدمة تغييب الشعوب عن حقوقهم الأساسية في الترويج لوعود واهية كافتتاح مشاريع ترفيهية أو خدمات ثانوية أو رؤية بعيدة المدى تقوم أغلبها على خطط استراتيجية ركيكة أو معدومة بل تكاد تكون تلك المشاريع عبارة عن كماليات لا تفيد المواطن بشكل أساسي وإنما الهدف منها تخدير المواطن وإشغاله عن واقعه المعيشي الذي يشهد مزيد من الضيق وارتفاع في الأسعار للمواد والخدمات الضرورية، وبذلك يكون هم المواطن السعي الحثيث لتأمين حاجياته اليومية، وتعليق آماله على مشاريع ورؤى مستقبلية قد لا تتحقق أو لا ترى النور إلا بعد وفاته.

بهذه الأساليب نجح الناظر/الحاكم إخضاع الشعوب، بعضها استسلم لقوة السوط الذي يحمله الفتوات/الجهاز الأمني، وشعوب أخرى ما تزال تحت تأثير الدعاية الواهية التي تقدس الحاكم على الرغم من قباحة أفعاله، بينما المصلح أمثال جبل ورفاعة وقاسم لم يعد له بريق مؤثر فالحاكم يسبقه بخطوات عديدة تجعل من قيام المصلح بدوره أمراً صعب التحقيق، والسبب تصدر مصلحون مزيفون شاشات التلفزيون، وهنا يطرح التساؤل هل هذا يعني استحالة ظهور مصلح ينقذ المجتمع من فساد وسيطرة الحاكم والفتوة؟

رواية أولاد حارتنا نقل فيها الأديب الصراع الأبدي بين الحق والباطل الذي استمر عدة أجيال وفي كل مرة ينتشر فيها الفساد ويطول يأتي المصلح وينقذ المجتمع من الخراب الذي يعيشه
رواية أولاد حارتنا نقل فيها الأديب الصراع الأبدي بين الحق والباطل الذي استمر عدة أجيال وفي كل مرة ينتشر فيها الفساد ويطول يأتي المصلح وينقذ المجتمع من الخراب الذي يعيشه
 

بحسب معطيات الواقع نجد أن الفرصة متاحة لمصلحين أمثال عرفة _وإن كان عرفة حسن النية ولكن خيبه سوء عمله وثقته العمياء بالناظر قدري_ نعم هناك مصلحون لكنهم إما مزيفون أو يؤيدون الاستبداد عن حسن نية بسبب عدم تفهمهم للخبث السياسي، وإصلاحهم هذا لا يعود بالنفع على الشعب بل يزيد من قسوة الحاكم باستخدامهم كأداة فعالة لتأكيد شرعيته، وما إن ينتهي دورهم يتم التخلص منهم كما حدث مع عرفة أو أقل ضرراً.

بالعودة إلى التساؤل بروز مصلح من عدمه عند النظر إلى الواقع تغلب النظرة التشاؤمية على محاولة الإصلاح، ولكن من يقرأ كتب التاريخ يرى أن صراع الحق والباطل ليس بالأمر الجديد، وهذا ما نجده في رواية أولاد حارتنا نقل فيها الأديب الصراع الأبدي بين الحق والباطل الذي استمر عدة أجيال وفي كل مرة ينتشر فيها الفساد ويطول يأتي المصلح وينقذ المجتمع من الخراب الذي يعيشه، فقد ظهر جبل؛ ورفاعة؛ وقاسم، وحمل كل منهم على عاتقه ضرورة إعادة السلام إلى الحارة وهو ما كان بعد أن عَلِمَ كل منهم المقتضيات الذي تساعده على تحقيق مراده، كما أن تجارب الإصلاح المعاصرة تجعل من الأمر ممكناً، فهذه تركيا ورواندا وبتسوانا يختلف ماضيهم عن حاضرهم، وهي تجارب كفيلة في بث الأمل من جديد.

في عالمنا العربي هنالك طرق تؤدي إلى الإصلاح وإن كانت بغاية الصعوبة لكنها ليست بالمستحيلة، تكمن العلة في الفجوة العميقة بين عالم الأفكار وعالم الأشخاص فيما يتعلق بالتوجه الإصلاحي، إذ ليس هناك تضافر في الجهود بين المفكرين والقادة الحقيقيين؛ أعمال المفكرين تبقى حبيسة الكتب وتحركات القادة تفتقر إلى التوجيهات الصحيحة، من أبرز السمات التي اتصف بها أبطال الرواية أنهم يحملون فكراً إصلاحياً يخالف ما هو سائد في مجتمعهم، كما أنهم يمتلكون إرادة قوية تجعلهم يستمرون في تحقيق الهدف المنشود نشر العدالة والمساواة، كما اشترك الثلاثة في نجاتهم من الفساد المتفشي في المجتمع، تعتبر المقومات الثلاث: الفكر والإرادة والعمل ضرورية لكنها تحتاج إلى عوامل أخرى يمكن الانطلاق منها؛ الأول فهم المصلح لبيئة المجتمع الذي يعيش فيه والثاني معرفة الأخطاء السابقة التي وقع بها من سبقه من المصلحين، والثالث الاستفادة من ثغرات الحاكم التي لا يحيط بها، فهذه العوامل وغيرها تضيف الكفاءة إلى جهد الإصلاح الذي يبذله الناشط في مجتمعه. إن ملحمة الحق والباطل تبقى مستمرة، ولسان حال الشعوب: لابد للظلم من آخر، وللَّيل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:

– نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، ط 7، مصر دار الشروق 2008، صـ 581.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.