شعار قسم مدونات

الخبز والسياسة.. كيف تُخضع الحكومات العربية شعوبها؟

blogs الثورات و الخبز

جاء في إنجيل متّى: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله"؛ وقد تكون هذه الآية على المستويين النفسي والعاطفي أقرب إلى الوجدان الإنساني وإلى الفطرة البشرية وإلى العقل بآلياته المنطقية. فالإنسان كونه كائنا فيزيقيا جمع المادة والروح جنبا إلى جنب؛ الملموس وغير الملموس؛ فتقتضي منه الحياة العادية إذن الموازنة بين الشرطين المادي والميتافيزيقي في آن واحد، بالرغم من الآية التي يُستقى منها تغليب الشرط الروحي، تحقيقا للرقيّ الذاتي وللرفاه المعنوي، باعتبار كمالات الإنسان ترتبط أبدا بما يتجاوز التفكير في تحقيق الإشباع من العناصر الاعتيادية للدورة البيولوجية الحيوية (أكل وشرب وتناسل…). لكن، وإن كانت الآية تشير إلى هذا المعنى، فإنها لم تغفل تحقيق شرط الاكتفاء الذاتي من الأسباب المادية، كونها المبتدأ والمنطلق نحو السعي إلى ما فوقها، إذ لا ينسلك في فهومنا البسيطة الحديث عن الدين والثقافة والفنون لشخص جائع وعارٍ!

 

في نفس السياق، وفي تماهٍ تام مع معاني الآية الإنجيلية، يزعم مفكر إيران علي شريعتي أن "مجاعة الفكر أخطر من مجاعة العيش"، مشيرا لما قد يُحدثه في الإنسانية فكر متطرف فاقدٌ لبوصلة الوسطية والاعتدال أكثر مما قد تحدثه الجحافل الجائعة المتمردة؛ ومع ذلك، كلنا يتصور ما قد تُحدثه البطون الجائعة التي لا يفكر أصحابها إلا في ملئها، بعيدا عن يوتوبيا الفكر والثقافة والسياسة، ولا شك أن تكون ثورة البطن الجائع أقدم ثورات البشرية.

 

من هنا نحاول إعادة الأمس البعيد مستذكرين جميعا خروج المصريين في عصر الدولة القديمة غاضبين ثائرين على الملك بيبي الثاني (ق 22 ق م) بسبب الجوع والقحط والظلم، علما أن الملك كان في مقام نصف إله. بعدها في القرن الحادي عشر خرج المصريون على الخليفة المستنصر بالله في ثورة جوعى أخرى لنفس الأسباب. أما في فرنسا 1789، فقد أكد غالبية المؤرخين أن النظام الملكي لم يكن في حد ذاته سبب إشعال شرر تلكم الثورة الدموية، إنما كانت الأسباب اقتصادية صرفة، إذ كان الجوع وسوء التغذية منتشرين بين الفئات الفقيرة مع ارتفاع أسعار الخبز كنتيجة طبيعية لارتفاع سعر القمح. نفس الجوعى الذين قدحوا زناد الثورة البلشفية في روسيا 1917 بعد تمادي النظام القيصري في الظلم والقمع وإمعانه في تفقير الشعب واستنزافه وإثقاله بأعباء الحرب ضد قوات المحور.

بقاء الحكومات في مراكزها مرتهن بتوافر هذه المادة بعينها في الأسواق وفي البيوت، ولعل فشل المستعمر الفرنسي في القبض بزمام الوضع في المغرب، مرتبط بالأساس في عدم توفيقه في توفير الخبز بشكل كاف

إن استقصاء ثورات الجياع قديمها وحديثها عبر العالم، لأمر مُضنٍ، والمقام على كل حال لا يسمح بسرديات تاريخية لم تخلُ منها بلاد من بلاد المعمور، كونها، أي الثورات، مرتبطة أغلبها بالخبز كمادة حيوية يعتمد عليها غذاء الشعوب كافة، بالرغم مما يعتري الأطعمة عموما من تنوع واختلاف، إذ لا يمكن تصور وجبة كاملة العناصر ومائدة يغيب عنها الخبز؛ ولا أدل على ما سلف ذكره، مدح عبد الرحمن الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" بعض الأثرياء بقوله: "وخبزهم وطعامهم مشهور بغاية الجودة والإتقان والكثرة، وهو مبذول للقاصي وللداني مع السعة والاستعداد"؛ كذلك ما أورده جمال كمال محمود في كتابه "الخبز في مصر العثمانية" قائلا: "إذا قل الخبز أو حتى امتنع في الأسواق تتغير أحوال الناس"، طبعا إلى الأسوأ، تماما كما ذكر أحمد بن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" ما نصه «وصارت أحوال مصر مثل يوم القيامة، كل واحد يقول: روحي، روحي!".

ما من شك إذن أن كان الخبز ولا يزال صمام أمان الشعوب، وسببا كافيا لحيازة الاستقرار الاجتماعي والأمني، بل والسياسي أيضا، كيف لا ونجاح الحكومات _ في دول العالم الثالث بالخصوص_ مرهون بدرجة أولى بتمكنها من توفير هذه المادة حد الاكتفاء الذاتي، أو حد الفائض والإشباع، ما دام الخبز الهاجس الأول والأخير لمواطن بسيط لا يدري من الحياة إلا إشباع بطنه وبطون عياله؛ ولله در محمود درويش منشدا: لم يكن للخبز في يوم من الأيّامِ/ هذا الطعمُ، هذا الدمُ/ هذا الملمسُ الهامسُ/هذا الهاجسُ الكونيُّ/ هذا الجوهرُ الكليُّ/ هذا الصوتُ هذا الوقتُ/ هذا اللونُ هذا الفنُّ/ هذا الاندفاعُ البشريُّ. السرُّ. هذا السِّحرُ.

من هنا ارتباط هذه المادة بالسياسة بشكل وثيق، حتى كادت السياسة في مجملها أن تكون سعيا لملء الأفواه بالقمح وبمشتقاته لا أقل ولا أكثر. ففي دراسة حديثة عن دور الخبز في صناعة الاستقرار في المغرب، أكدت للباحثة الأنثربولوجية البريطانية كاثارينا غراف اتصال هذه المادة الحيوية بأبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية متداخلة ومتشعبة، في ارتباط بالبعد السياسي؛ وباعتبار الخبز مادة مدعمة، فقد ظل النظام خلال 150 سنة الماضية متحكما في مختلف أطوار صناعته، إضافة إلى كونه مادة حيوية في المطبخ المغربي، حاملا لقيم رمزية وروحية متجذرة في عمق الثقافة الشعبية.

 

كما أبدت الباحثة استغرابا من ردود بعض المستجوبين المتكررة التي مفادها الأوحد "لا أنتظر أي شيء من الحكومة عدا توفير الخبز"، إضافة إلى إبداء أغلبهم عدم الاهتمام بالثقافة السياسية (انتخابات، تصويت، أحزاب…)، كما أشارت الباحثة من خلال الاشتغال على البعد التاريخي، إلى أن مصطلح "المخزن" ذاته، مع رمزيته السلطوية والأمنية، فهو في آخر المطاف، ارتكازا على المعنى اللغوي، موضع لتجميع الحبوب وخزنها؛ كذلك يؤكد النظر في الوثائق الرسمية القديمة، خصوصا بالنسبة لسكان الحواضر، أن الخبز ظل خاضعا لسيطرة حكومية صارمة، من حيث سعره ونسبة إنتاجه، إضافة لمراقبة السلطات الأفران والخبازين والموزعين، خلاف ما كان في القرى من متابعة أضعف. 

إن بقاء الحكومات في مراكزها مرتهن بتوافر هذه المادة بعينها في الأسواق وفي البيوت، ولعل فشل المستعمر الفرنسي في القبض بزمام الوضع في المغرب، مرتبط بالأساس في عدم توفيقه في توفير الخبز بشكل كاف للمواطن المغربي. ففي كتابها "سياسة الغذاء في المغرب المعاصر" عَزَت ستايسي هولدن سقوط الاستعمار الفرنسي بعجز الفرنسيين عن توفير الخبز، طبعا إلى جانب تكاثف عوامل عدة كالركود الاقتصادي العالمي والسياق السياسي الدولي، إضافة إلى تتابع مواسم فلاحية ضعيفة المحصول بسبب الجفاف، الأمر الذي ولَّد سخطا شعبيا في عموم البلاد.

 

وقد حدثنا المؤرخ الاقتصادي ستيفن سيرلس، تعضيدا لما أوردته ستايسي، في كتابه "الجوع والدولة: المجاعة والرق والسلطة في السودان 1883_1956″،أن وقوف الدولة على قدميها _السودان نموذجا_ تابع لتعزيز وتقوية الأمن الغذائي، الشيء الذي يخدم ثبات أركانها ويبعدها عن الثورات والقلاقل، والسودان كما نعلم مهيأة جغرافيا ومناخا وبيئيا لتحقيق الاكتفاء والأمن الغذائيين لولا تدخل المصالح الأجنبية التي أفضت إلى تقسيمها وزعزعة أمنها.

undefined

إننا مستعدون كمواطنين إذن للاستغناء كليا عن حواشي الحياة وكمالياتها، لكننا بالمطلق غير قادرين، ولو للحظة واحدة، عن الاستغناء عن الخبز الذي يقيم أصلابنا ويسكت جوعة عيالنا، فلا قيمة لشيء أمام قيمة هذا العنصر الإحيائي؛ هنا نتدكر جميعا برنامج الأمم المتحدة الموسوم بـ "النفط مقابل الغذاء"، الصادر سنة 1995 بعد قرار لمجلس الأمن، يسمح بموجبه للعراق بتصدير نسبة محددة من نفطه، تخصص عائداتها لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساس، بعد ما كابده الشعب العراقي من معاناة واسعة النطاق بعدما وضعت حرب الخليج أوزارها. فهل ثمة لبراميل الذهب الأسود من قيمة تعدل قيمة الخبز في ظروف عادية بَلْه في ظروف أقل استقرارا وأمنا؟ 

إن السياسات الحكومية في جل الدول العربية، على الأرجح، لا تضع في ديباجات برامجها التدبيرية سوى ما يمكّنها من الاحتفاظ على الاستقرار العام وثبات الأوضاع التي من شأنها ألاّ تقدح في أذهان المتضررين أفكارا ثورية واستعدادا لهدم الأنظمة وإعادة بنائها؛ فالوضع القائم عموما من الشرق العربي إلى غربه، اجتماعيا واقتصاديا وتنمويا وسياسيا، إضافة لما أبان عنه الربيع العربي من النوايا الزائفة المتوارية خلف وعود الساسة؛ لا يدع مجالا للشك في نوايا القابضين على زمام دوائر القرار التي لا تتجاوز سقف تأمين المأكول والمشروب، مهما تعددت تلاوين خطاباتهم ووعودهم الفردوسية التي يكذّبها الواقع كل حين، وكأنهم تماما ينتهجون سياسة الراعي، الذي يجعل كل اهتمامه توفير الكلأ والماء لغُنيماته الجائعة، لتعود مساء إلى زرائبها سعيدة، وليستلقي راعيها مطمئنا آمنا ثغاءها المزعج وغدرها المحتمل! والسياسي صاحب ذهنية الراعي، يدري دراية تامة أنه بمجرد ما يفلح في ملء بطون "القطيع"، فإنه حتما ضامن لهدوء عام سيسود البلاد والعباد. إن قطعة الخبز البسيطة هي عصا الساحر التي تصنع المعجزات!

علينا الاعتراف إذن، ونحن تحت مظلة سياسات العالم المتخلف، أو العالم "الجائع" إن صح التعبير، أننا مهما حاولنا التماهي مع صيحات الحداثة وبدائع التكنولوجيا، ومهما مددنا أعناقنا مطاولة أفكار المستقبل وخوارق العلم المُعجِبة، لن نبرح بالتأكيد مواقعنا الحالية ولن نتجاوز كوننا شعوبا تربط مصيرها الوجودي على هذا الكوكب بتوافر خبز يُؤكل من رأس السياسي الذي يأمر المواطن كل يوم بالتصاغر وبالخضوع، مهددا إياه إذا أفلت عقاله، بيوم يغمس فيه أصابعه في صحن فارغ. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.