شعار قسم مدونات

عندما يصبح الناس قضاةً.. إلاّ على أنفسهم!

blogs اتهام

في ظلِّ أحداثِ الوطنِ العربيِّ الداميّة في السنواتِ الأخيرة، في شامِنا وفي فلسطيننا وقدسنا خاصة نرى أغلب الناس يعلِّقون أسبابَ ما آلَ حالنا إليه على بعدنا عن ديننا والبغضاء التّي تسكنُ قلوبنا، وحالة التَّفككِ المجتمعيِّ التي نعيشُها. نرى أصابعَ الاتِّهام في كلِّ حوارٍ ونقاش يُدار عن سوء الأحوال تشارُ حول فسادِ الناس وطغيانهم، وبعدهم عن تعاليم دينهم. في أحاديثِ النساءِ وجلساتهم كثيراً ما تتكرَّرُ هذه العبارات "لم يعد الناس كما كانوا، قد فسقوا وطغوا وضلوا فحلَّ عليهم غضب الله ". كثيراً ما يتكرَّرُ هذا الكلامُ في كلِّ الأماكن.. على لسانِ الشيوخ والأئمةِ والدعاة وحتى سائق سيّارة الأجرة وحافلة النقلِ العام وعلى لسان أفراد المجتمع بكل طبقاتهم.

لست في صدد تفسير ما يحدث في هذا العالم الكبير، ولست أفهم في السياسة كثيراً فلها أهلها وخبرائها، ولن أُقحم نفسي في التحليل والدخول في تفسير سنن الكون. ولكن أردت أن أنقل لكم وأشارككم ما أحدِّثُ به نفسي كثيراً حين أسمع أحكام الناس وتفسيراتهم لما يحدث وكأنَّهم خارج إطار الكون الذي يعيشون فيه. نحنُ في زمانٍ أصبحَ فينا كلُّ واحد يلقي اللوم على غيره. لا أنكر أن الناس تغيروا وأن القيمَ والأخلاقَ والدين يتلاشون شيئاً فشيئاً، فالقيم والمصالح المادية أصبحت تحكم البشر وتحركهم كأحجار نرد في مسرح الحياة، ولكن يصيبني الذهول حين أسمع من يتكلمون عن فساد الناس وأنهم سبب ما يحدث في هذا العالم من كوارث ونزاعات ولو نظرت لحالهم لوجدت العجب!

في أغلب جلساتِ النساء التي يستنكرون فيها حال الناس وبعدهم عن دينهم يقترفون من الغيبة والنميمة ما لا يمكن إحصاؤه. من يشكو من بغضاء الناس لبعضهم مخاصمٌ لأحد أفراد عائلته لسبب تافه. سائق سيارة الأجرة الذي رأيته بالأمس ينتقد الناس نفسه من كان قبل أيام قليلة يشتم ويصرخ ويزاحم في أزمة السير. وإمام المسجد ذاك يضرب زوجته ويشتمها ويهينها ويخرج على الملأ يعظ وينصح بالرفق بالقوارير. انقسام وشقاق بين فتح وحماس، وشيعة وسنة، وبين مؤيد للنظام ومعارض، كل منهم يتهم الآخر ويتفنن في تَصيُّدِ أَخطائه.

أصلحوا أنفسكم، وقولوا للناس حسناً، وازرعوا بذرة الخير في أي أرضٍ تطؤوها وفي أي قلبٍ تلمسوه، كونوا مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر أينما كنتم، واتركوا أحكامَكم على البشر وتصنيفَهم للجنة والنار وفقاً لمعاييرِكم

واقعُنا العربيُّ مريرٌ ومليء بالمآسي والويلات.. تفرَّقنا فتجرَّأ علينا المترَبِّصون من كل حدبٍ وصوب. وصدق الشاعر حين قال: نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا. متى ندرك أن المجتمع هو أنا وأنت.. جاري وجارك.. عائلتي وعائلتك.. ديني ودينك.. أخلاقي وأخلاقك؟! لن ينصلحَ حالُنا أبداً إلا حين نرى أخطاءَنا قبل أخطاء غيرنا.. لا أن نتحرّى أخطاءَ غيرِنا بعدسةٌ المجهر ونعمي عيوننا عن أخطائنا.

لم لا يبدأُ كلٌّ منا بإصلاح نفسه؟! فالمجتمع هو نسيجٌ من الأفراد وإصلاح كل واحدٍ لنفسه سيحدثُ إصلاحاً في غيره. المجتمعُ تماماً كالثوب ينسجُه أفرادهُ جميعهم، فإن استخدمَ أَحدُهم خيوطَ أفعالٍ رديئة أو لم يكن ماهراً بما يكفي في حياكته سرعانَ ما اهترأ وتمزَّقت أَوصالُه. أذكر هنا حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم "مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا".

فالمجتمع كلٌّ متكامل وكلُّ خطأ يرتكبه كلُّ فرد فيه يؤثر على بنيانه بأكمله، كما قال رسول الله عليه أفضل السلام "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً". من المؤسف جداً أن أكثر الناس يقولون ما لا يفعلون، وينتقدون ما يفعلون، وكأن أفعالهم في حالة فصامٍ مع أقوالهم. لا أنسى أننا جميعاً خطائين، ولكن بعيداً عن الأنانيةِ والفكر الضيِّق يمكن تفادي أي خطأ أو علاجه بأقل الخسائر إن حصل. علينا أن نبدأَ بإصلاحِ أنفسنا ونراجع ذواتنا أولاً بأول لنقيِّمها فنقوِّمها، وإن رأينا مُنكراً علينا أن نمتلك مهارة النهي عنه والأمر بالمعروف بالكلمة الطيبة. علينا أن نتعلم أن نأخذ بيد بعضنا.. أن نتكلم مع بعضنا لا عن بعضنا.. أن نتعلم ثقافةَ الاحترام والاختلاف… فمن يختلف عني ليس عدوّي بل قد يكون مكمِّلاً أو مقوِّماً لي ما دامت لغةُ الحوار موجودةً والعدلُ هو الحاكمُ السّائد.

أصلحوا أنفسكم، وقولوا للناس حسناً، وازرعوا بذرة الخير في أي أرضٍ تطؤوها وفي أي قلبٍ تلمسوه، كونوا مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر أينما كنتم، واتركوا أحكامَكم على البشر وتصنيفَهم للجنة والنار وفقاً لمعاييرِكم، فالله يتولى عبادَه وهو أخبر بهم. يكفي أن تلتزموا بإنسانيتكم تجاه الناس جميعاً، وتعاملوهم بأخلاقكم، وتصلحوا ما يمكنكم إصلاحه في بورِ أرواحكم وأرواحِ من تعرفون، فكلُّ بذرة خير تزرعونها ستجنونَ ثمارها ولو بعد حين. كونوا قضاةً على أنفسكم، خيرَ ناصحين لغيركم، وتذكَّروا أنَّ الدينَ المعاملة، والمعاملة الطيبة أساسُ بناءِ المجتمعِ السليم، وصحَّةِ علاقاته؛ لتعودوا خير أُمةٍ أُخرجَت للناس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.