شعار قسم مدونات

أناقة الخطاب الروائي في رواية "كشف المحجوب"

BLOGS كشف المحجوب

إن رواية كشف المحجوب لحقيق أن تكون ملمعا من ملامع الرواية المغربية، فقد أبان فيها فريد الأنصاري عن معالم يشهدها المجتمع المغربي في المدينة والبادية، وكشف عن سر حبه، وعن مسائل لها وقعها التناسبي والترابطي بما يحصل في الواقع المغربي، وأظهر ذلك بأسلوب بديع وشريف، وصوره بصور تخيلية، تجعلك تتبع أحداث الرواية، وأنت في وعي تام، إنك تتساءل في قراءتك لها، عن سر الإجادة، والرجل فقيه من الفقهاء، فإننا نرى أنها ملمحا أدبيا راقيا، لا بد وأن تسعى في درايتها إلى قوة وصبر، إن رواية كشف المحجوب لجزء بسيط من بداعة وبراعة تأليفات فريد الأنصاري، الذي لربما إن النقد لم ينصفه، فأناقة الرجل التي تأنق بها قد جعلت خطابه الروائي يتأنق، فيكتسب أناقة، تسمى بأناقة الخطاب الروائي.

أولا وقبل تقديم رؤية شاملة عن الرواية، وعن أفكارها وما تحمله من الدلالات والصور التي تكشف لنا عنها، وما يمكن تقديمه من ملاحظ عامة حول الرواية، لا بد وأن نحدد دلالة العنوان، على اعتبار أن صاحبه صرح في البداية بأن العنوان أخذ من كتاب مشهور يعلمه أهل البصيرة، وهو كتاب "كشف المحجوب" للإمام علي بن عثمان الجلابي الهجويري المتوفي 492هــ، كان عالما صوفيا خلال القرن الخامس، وكتابه أقدم مؤلف في التصوف باللغة الفارسية، ويعتبر أول كتاب منظم في الأصول النظرية والعلمية للتصوف.

 

وموضوع كشف المحجوب جاء ردا على السؤال "الذي وجهه إلى الهجويري أحد رفاقه في غزنة مكان ولادته وطلب إليه أن يبين له طريق الصوفية ومقاماتهم ومذاهبهم وأقوالهم ومعاملاتهم، وقد أجاب الهجويري على السؤال إجابة مطولة"، وتحدث في كتابه عن باب الفقر، والتصوف، والملامة، وأهل البيت، وأئمة الصوفية من الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين، والمتأخرين، هذه هي أهم المواضيع التي تحدث عنها الهجويري، وللربط بين عنوان الكتاب الأصل، وموضوعه، وبين رواية فريد الأنصاري وموضوعها، فإن الجامع بينهما هو كشف الحجاب.

 

الرواية في خمسة فصول رئيسة كلها تكشف لنا عن جزء من حياة فريد الأنصاري، وهو المسمى بالمحجوب، فهو سر عرفاني مستور عن عامة الناس بحجب الله

فالهجويري يكشف لنا طرق الصوفية في شتى مناحيها المتعددة، والأنصاري يكشف لنا عن حاله وحال ما عاشه في بعض مقتطفات حياته، ولن أبالغ إذا قلت إنه يكشف لنا عن سر جعله يعيش أيام حزن وألم، ويمكن أن نقول إن الغاية أيضا مشتركة بين الكتابين، كيف ذلك؟ وهو أن الكتاب الأصلي في التصوف غايته إرضاء السائل وإقناعه، وجعله في راحة حتى يلج إلى التصوف، وأمر آخر هو جعل الصوفية شيئا محمودا لدى الناس، من أجل إصلاح حالهم وهدايتهم، للتقرب من الله تعالى هذا من جهة، ومن جهة أخرى في المسألة المرتبطة بغاية فريد الأنصاري من كتابته لهذه الرواية، ولم كتبها بعنوان مستعار؟، هي أنه يريد أن يكشف عن ما حجبه لمدة ليست بالقصيرة، لا من حيث ما كتمه، وما عانه من الصبابة التي أصابته، وأنتم تعلمون مصارع العشاق فهي تصيب جميع الناس، وكأنه يريد أن يكشف زيف حبه، ومجتمعه وأشياء اخرى سأوردها في مضمون الرواية ودلالاتها. والأهم من كل هذا أن فريد الأنصاري ـ رحمه الله ـ قرر أن يبوح عن أشياء تعب منها وألمته سنين طوال، كشف المحجوب لراحة قلبه، وتعلمون قول الشاعر: لي قلب أعيش به فلما اصطلى بنار الحب فاحترقا، فهو احترق وأصابه ما أصاب الناس وهذا أمر طبيعي لا نحسبه انتقاصا في حق الرجل.

الرواية في خمسة فصول رئيسة كلها تكشف لنا عن جزء من حياة فريد الأنصاري، وهو المسمى بالمحجوب، فهو سر عرفاني مستور عن عامة الناس بحجب الله، ولا يكشفه إلا من دخل مقام الكشف والتجلي، والمحجوب محفوظ بحفظ الله الخفي، ويسمى أيضا باسم المجذوب، فهو اسم يطلق من قبل عامة الناس، وهذه الرواية يصور فيها صاحبها، المجتمع المغربي، بمقارنة مع حاضرة الرباط، بما فيها من الملاهي والتدني الأخلاقي، وقريته التي ولد فيها وترب في أحضانها، ويقدم لنا ثقافة أناس الجنوب، في عادة أكلهم، وعيشهم، وتعليمهم، وتعاملاتهم، واللغة التي يتكلم بها لغة شاعرية جبرانية وعقادية، إنها لغة الطبيعة بجميع مكوناتها، بالإضافة إلى الرموز التي وظفها وفق سياقات تعبيرية، تحمل دلالات وتأويلات عديدة، ولا مجال ههنا للخوض في هذه المسائل؛ لأننا بصدد تقديم تلخيص فقط للرواية.

بعد عشر سنوات من الألم والكتمان الذي سبب الأنين للمحجوب أو المجذوب، قرر أن يبوح عن معاناته وما أصابه من معاناة، فتذكر في القسم الأول حبيبته سيدة البستان، أو "لونجا" بتعبير جدته، فهي سيدة الجمال التي سحرت أعيانه، وأحرقت جسده، وتبدت له فيها صورة الشيء العجيب لحبه العجيب، امرأة جاسوسة دخلت قلبه، فغلقت الأبواب المشرعة، حتى لا تستطيع سيدة الدخول إليه، فسيطرت على قلبه المكتوم، بعدها تحدث عن وظيفته الجديدة، مع صديقه علي، والتقائه بسيدة النادي، التي تمثل رمزا للفتاة العصرية المتدنية أخلاقيا، على خلاف المرأة الجنوبية المتمثلة في سيدة البستان، إنها بخور الجنة، إنها المصباح النفطي، وتذكر أيام النضال بالحي الجامعي.

كشف المحجوب حقيقة ذاته، وحق له ذلك، فقد شغفه الحب شغفا ألبسه لباس التأنق والتألق لِما شق صدره من الألم، وليس غريبا أن يحدث هذا فقد التقت روحه بروح جادت الجادة في وصفها له
كشف المحجوب حقيقة ذاته، وحق له ذلك، فقد شغفه الحب شغفا ألبسه لباس التأنق والتألق لِما شق صدره من الألم، وليس غريبا أن يحدث هذا فقد التقت روحه بروح جادت الجادة في وصفها له
 

وفي القسم الثاني من الرواية، يكشف لنا عن معاناته مع الوظيفة، وتغير مسار صديقه علي إلى الرقص والشرب في النادي، وأخبرنا عن بعض ملامح ثقافة الراشيدية، في نعتهم للأجنبي بالغرباوي، أو الغرباوية، وحدثنا عن مساره في الدراسة، وكيف كان يزاوج بين الزاوية مكان الفقراء، المدرسة، أو مدرسة النصارى بتعبير أبيه، ويحكي أحداث الفقيه، وكيف يجتمع أهله، وعن عدد اخواته الذين يبلغ عددهم سبعة أبناء، وعن طبيعة النقاشات التي يتحدث عنها أفراد العائلة؛ إذ كانت تراوده أخبار المجانين، حينما يتأمل في المصباح النفطي فيتذكر سيدة البستان، كما تحدث عن يوم حفله اثناء توقيع إبداعه والدعوة التي تلقاها من قبل سيدة النادي، لحضور أمسية شعرية، ولما سألته عن الزواج، فكان ذلك سؤالا محرجا له، فغير الموضوع، وكأن به يقول: كيف لي أن اترك "بخور الجنة، ودخان جهنم"، حتى أتزوج بِك.

والقسم الثالث من الرواية، كان هو المحطة الرائعة والعصيبة، وهي لما قرر زيارة شيخه الذي حفظ على يده القرآن، وهو إمام القرية، فطرق الباب، وإذا بالبخور ينتشر، والنور من شقوق الباب ينسطع، يشبه المصباح النفطي، فطم عليه الظلام بعد أن سمع صوتها، إنها الفتاة التي ظلت الجدة تصفها له من كتاب "لونجا" الكتاب الذي لم يحترق، وهنا كشف المحجوب حقيقة ذاته، وحق له ذلك، فقد شغفه الحب شغفا ألبسه لباس التأنق والتألق لِما شق صدره من الألم، وليس غريبا أن يحدث هذا فقد التقت روحه بروح جادت الجادة في وصفها له، وبعد لقاء شيخه فما عقل بشيء أبدا، وبعد اللقاء عاد إلى العاصمة، وتحدث عن النقابة والنضال، وما يساوقها من الأحداث.

القسم الرابع، كله كلام عن النقابات والنضالات، ولقاؤه مع زوج سيدة النادي بعد دعوة عشائية بينهما، وفي هذا القسم مجموعة رموز لها مداليلها التأويلية، وبعدها زار بلده مره أخرى، ولكن العودة لم تكن محمودة ولا مأنوسة، ولا فيها فرح ولا أنس، إنها الصاعقة وإنها الرصاصة، بل أنجب من ذلك وأصعب، بعد أن أخبره أخوه المهدي برحيل الإمام ورحيل سيدة البستان، فما كان له أن يصدق ذلك، وقد هاجرت مؤنسته، وحبيبة روحه، التي اصطلى بها، وشغف بها، إلى أن احترق وكاد أن يصيبه الوله، ونادى بالسباع والضباع أن أقبلي.

القسم الخامس، كلها حديث عن النقابة، وعن جمعية البر والإحسان، وأشياء كثيرة متعلقة بالجمعية. فالمحجوب أمير العشاق؟.. قصته ملأت كل البوادي تغدو بها الركبان وتروح، ولم يجد المحجوب دواء غير سيدة البستان، بخور الجنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.