شعار قسم مدونات

في الهجرة.. ابحث عن الصاحب!

blogs الهجرة

مع إطلالة الهجرة كل عام يتسابق الخطباء والدعاة والكتاب ليتحدثوا عن دروس الهجرة وعِبَرها، وليمتدحوا إبداعات الرسول صلى الله عليه وسلم في الأخذ بالأسباب، وليصفوا ذكاء النبي عليه الصلاة والسلام وحنكته في تسيير عملية الهجرة في كل خطواتها. هذه كلها إبداعات وقدرات خاصة لنبينا صلى الله عليه وسلم لا شك، غير أنني سأنقل النظر إلى ملمح آخر. هذا الملمح هو ما أطلقت عليه في العنوان "ابحث عن الصاحب"، إنه الصديق أبو بكر رضي الله عنه، الذي سماه الله سبحانه "ثاني اثنين"، واختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليكون رفيقه وصاحبه في أهم رحلة في تاريخ الإسلام.

لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق دون غيره؟

لقد كان يمكنه أن يختار عمر الفاروق أو حمزة العم رضي الله عنهما ليحمياه لو تعرض له أحد المشركين، وهما المعروفان بالقوة والمنعة. ولقد كان يمكنه أن يختار عليا رضي الله عنه، قريبه الشاب الفتي الشجاع القوي، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل. لماذا الصديق إذن؟ هل لأنه السابق للإسلام؟ قد يكون، ولكنه ليس سببا كافيا، فقد علَّمنا صلى الله عليه وسلم أن "المناسَبة" هي معياره الأول في الاختيار، ويسبق أي معيار آخر حتى لو كان معيار السبق، وما اختياره لخالد لقيادة الحروب، ولحذيفة ليكتم سره، ولأبي عبيدة ليكون أمين الأمة، رضي الله عنهم أجمعين، إلا أبرز دليل؛ بل بقي هذا دأبه صلى الله عليه وسلم حتى قبيل وفاته، حين سير الجيش بقيادة الشاب اليافع أسامة رضي الله عنه، ذلك الجيش الذي ضم بين أركانه كبار الصحابة وعظامهم. بقي السؤال بلا إجابة: لمَ الصديق إذن؟ للإجابة على هذا السؤال علينا أن نقرأ حادثة الهجرة من جديد، ولكن بعين مختلفة، إنها عين "البحث عن الصاحب".. لأدع السيرة تتحدث، ولكن بلسان الصاحب هذه المرة:

طمع الصديق لأن يكون الصاحب وتشوقه لذلك:

1- طمع الصديق أن يكون الرفيق: قال ابن إسحاق: "وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة؛ فيقول له رسول الله: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا) فيطمع أبو بكر أن يكونه". فرح الصديق بالخبر: قال ابن إسحاق: "عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث.

 

آل الصديق أهل الثقة: قال ابن إسحاق: "ولم يعلم-فيما بلغني-بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر"

قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخرجْ عني من عندك)، فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟ فقال: (إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة)، قالت: فقال أبو بكر: الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: (الصحبة)، قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ".

2- لم يكتف الصديق بالطمع والشوق، بل أعد العدة: قال ابن إسحاق: "وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا ذا مال؛ فكان حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقال له رسول الله: (لا تعجل لعل الله يجد لك صاحبا)، قد طمع بأن يكون رسول الله إنما يعني نفسه حين قال له ذلك، فابتاع راحلتين فاحتبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك".

3- آل الصديق أهل الثقة: قال ابن إسحاق: "ولم يعلم-فيما بلغني-بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر".

4- آل الصديق بيت تضحية: قال ابن إسحاق: "فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه عبادا حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لا أراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك".

5- من قام بالخدمة عليهما في الرحلة؟ إنهم بيت الصديق: عبد الله، وأسماء، وعامر مولاه، قال ابن إسحاق: "فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه-حين فقدوه-مائة ناقة لمن يرده عليهم، وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر. وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في عيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه، حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم علقتها به".

6- حرص الصديق على رفيقه النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمه على نفسه:
* أخذ الصديق كل ماله معه، ولم يترك شيئا لأهل بيته.

* تأكد من سلامة الغار: قال ابن هشام: "وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا؛ فدخل أبو بكر قبل رسول الله، فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه".

* أعطاه الدابة الأفضل: قال ابن إسحاق: "فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما، ثم قال: اركب فداك أبي وأمي، فقال رسول الله: (إني لا أركب بعيرا ليس لي)، قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال: (لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟)، قال: كذا وكذا، قال: (قد أخذتها به)، قال: هي لك يا رسول الله، فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق".

الهجرة حدثٌ جَلَلٌ عظيمٌ للأمة الإسلامية؛ فابحث عن الصاحب حين تقوم بخطوة عظيمة في حياتك
الهجرة حدثٌ جَلَلٌ عظيمٌ للأمة الإسلامية؛ فابحث عن الصاحب حين تقوم بخطوة عظيمة في حياتك
 

* ظل الصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ليحميه حر الشمس: قال ابن إسحاق على لسان أهل قباء: "لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وتوكفنا قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله، فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارة، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وأنا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء، قال: فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ورقبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك".

هكذا يتحقق لنا وجه آخر من إبداعات رسولنا صلى الله عليه وسلم في الهجرة حين عرف من يختار ليكون رفيقه في هذه الرحلة شديدة الأهمية والحساسية في تاريخ رسالة الإسلام. ولعلها وجه آخر من تعليمه صلى الله عليه وسلم أفرادَ أمته كيف يختارون أصحابهم، وكم هو مهم وأساسي أن ندقق ونمحص ونتروى في اختيار هذا الصاحب الذي يشاركنا رحلة الهجرة إلى الله تعالى، فيكون عونا وسندا وقوة، لا سدا يمنع هدى الله تعالى أن يأتينا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكد فعله في اختيار الصاحب في الهجرة، أكد فعله بقوله عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه.

صلى الله تعالى عليك وسلم يا نبينا المحنك في ذكرى هجرتك، ورضي الله تعالى عنك يا صديق الأمة الصاحب، يا من أكدت مع كل حدث أنك نِعْم "ثاني اثنين"، ولم يكن ليحل محلك أحد أيا كان. الهجرة حدثٌ جَلَلٌ عظيمٌ للأمة الإسلامية؛ فابحث عن الصاحب حين تقوم بخطوة عظيمة في حياتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.