شعار قسم مدونات

قتلوه لأنه كان طفلا!

blogs اليمن

قال لي في ليلة من ليالي شهر أبريل عام 2015 "إنه طفل متهور، ونحن نخوض حربًا لن نخرج منها بسهولة.. هذا إذا خرجنا منها أصلا"، لم يقصد صديقي السعودي الذي قابلتُه بُعَيْد بدء حرب اليمن بالطفولة غيرَ الطفولة السياسية.. وكنا نتحدث عن السياسة الجديدة للمملكة العربية السعودية.. قلتُ: "لقد وصل الشباب للحكم بعد جيل طويل من القيادة الكبيرة التي حكمت المملكة.. وحدث تغيير كبير في هذا الأمر، وقد خاض حربًا كنّا قد أردناها بشدة لمواجهة التدخل الإيراني في منطقتنا العربية بعد أن ابتلع هذا التدخل لبنان والعراق وأخيرًا سوريا".

في 26 من مارس آذار من عام (2015) بدأت السعودية تحالفًا قادت به عملياتها العسكرية في اليمن وأطلقت عليها "عاصفة الحزم" لاستعادة شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، بعد أن سيطر الحوثيون ومعهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح على العاصمة صنعاء. والحوثيون هم جماعة يمنية تدين بالولاء المذهبي لإيران كما هو معروف.. وبذلك فإن وصولها للحكم يعني أن اليمن قد انضم إلى قائمة الوجبات السريعة للنَّهِم الإيراني. وكنَّا نأمل أن وقف هذا الأمر إن حدث فلا بد من أن تكون المملكة العربية السعودية هي الفاعل وهي مهد الإسلام السني والأخ الكبير في المنطقة الخليجية والعربية. وقد حدث أن كانت هي الفاعل، ولم يحدث ما كان مأمولًا من فعلها.

في البداية كانت مشاهد القصف العسكري لمواقع الحوثيين التي يعلن عنها الإعلام العسكري الرسمي السعودي شيئا يدعو للفخر.. نعم نحن نملك القوة لكف يد إيران عن المنطقة.. كم كنَّا مغفّلين وقت أن ظننا ذلك؟! بعد شهر من انطلاق العملية، أعلن المتحدث باسم عملية عاصفة الحزم العميد الركن (أحمد عسيري) يوم الثلاثاء 21 أبريل نيسان 2015 انتهاء "عاصفة الحزم" رسميا، وبداية عملية "إعادة الأمل". وكلها ألقاب حرب في غير موضعها.

أثبتت الوقائع الفعلية على الأرض أن الحزم لم يكن حزمًا لا لليمن ولا للتحالف.. فجماعة الحوثي التي ما كانت إلا ميليشيا عندما بدأ التحالف غاراته.. أصبحت الآن قوةً لا يستهان بها

كنّا نسمع صغارا في المدرسة عن داء الكوليرا، وعلى ما أذكر: هذا الداء لم يعد له وجود في العالم المحيط بِنَا.. ربما في بلاد بعيدة جدًا.. ومن فترة قريبة، فوجئنا بأن هذا الداء قد عاد وانتشر بصورة مفجعة قتلت كثيرا من الأطفال في اليمن بسبب هذه الحرب، فقد قالت مؤسسة الإغاثة العالمية (أوكسفام) إن عدد الحالات المصابة بالكوليرا في اليمن يمكن أن يزيد إلى أكثرَ من 600 ألف ليصبح "أكبر عدد مسجل إلى الآن في أي دولة في عام واحد منذ بدء التسجيل".

وقال مدير الإغاثة الإنسانية في المؤسسة، (نايجل تيمينز)، بعد أن عاد من اليمن: "الكوليرا انتشرت بلا رادع في دولة في حالة سيئة للغاية بعد عامين من الحرب وتقف على شفا المجاعة بالنسبة لكثير من الناس الذين أضنتهم الحرب والجوع، والكوليرا هي الضربة القاضية". والواقع يقول أن لكل حرب عواقِبَها الوخيمةَ على الشعوب أولا قبل أي شيء آخر.. لكن الذي تغير بصورة لا أَجِد لها وصفًا إلا الوقاحة.

أن قوات التحالف التي قتلت من الشعب اليمني أكثر مما قتلت من قوات الحوثي.. كانت تخرج بعدها مباشرة وتصرِّح بأن هذا الاستهداف كان "خاطئا".. وأيًّا كان الأمر، كانت الجريمة تحدث على قدر قليل من الاستحياء والخجل، وربما لم يكن إلا خوفًا من منظمات الأمم المتحدة وحسب. لكن الجريمة التي شهدها العالم أجمع.. قَتْلُ 29 طفلاً على الأقل وإصابةُ 48 شخصاً في قصف جوي استهدف حافلة مدرسية، وفقا لما صرح به الصليب الأحمر. وبعد هذا الاستهداف خرج بكل وقاحة وجُرأة المتحدث باسم التحالف العسكري بقيادة السعودية: (تركي المالكي) لوكالة فرانس برس وأقر بأنه شن غارة جوية أصابت حافلة أمس، لكنه أكد أنها لم تكن تنقل أطفالًا بل "مقاتلين من الحوثيين" أيّ إعادة للأمل هذه؟! نحن نحتاج لأن نُعيد الخجل مرة أُخرى ولا أظننا نستطيع.

بكل أسفٍ وحُرقة.. سيذكر التاريخ يومًا ما أن هناك أطفالا كُثرًا قُتلوا أو تنتظرهم الكوليرا لتفعل ذلك.. بسبب طفل آخر كان يهوى لُعبته التي افتعل لحرصهِ المتهور على امتلاكها كثيرا من الأخطاء
بكل أسفٍ وحُرقة.. سيذكر التاريخ يومًا ما أن هناك أطفالا كُثرًا قُتلوا أو تنتظرهم الكوليرا لتفعل ذلك.. بسبب طفل آخر كان يهوى لُعبته التي افتعل لحرصهِ المتهور على امتلاكها كثيرا من الأخطاء
 

أثبتت الوقائع الفعلية على الأرض أن الحزم لم يكن حزمًا لا لليمن ولا للتحالف.. فجماعة الحوثي التي ما كانت إلا ميليشيا عندما بدأ التحالف غاراته.. أصبحت الآن قوةً لا يستهان بها، وقد أكسبتها الحرب خبرة عملية قوية قلبت الموازين على الأرض.. وتحولت السعودية من مهاجم إلى مدافع بعد أن وصلت الصواريخ الباليستية الحوثية إلى وسط أراضي المملكة.. وانشغلت الأخيرة بالدفاع عن حدودها وافتعال أزمات دولية مرةً تِلو أخرى، أفقدتها حكمتها التي لطالما عُرفت بها.. فرُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ فَلَمّا، صِرتُ في غَيرِهِ بَكَيتُ عَليه.

في حين أن هذا التحوّل في دائرة الحكم في المملكة تُرجم واقعًا سياسيًّا على حسابها، وأطلق يد (أبو ظبي) لما تهواه من مشاريعها التوسعية والنفوذية لتسيطر على موانئ وجُزرَا لم يكن للحوثي أصلا وجودٌ يُذكرُ فيها. هذا الخُذلان للشعب اليمني وللتحالف ولنا جميعا. ليس بقوة الحوثي ولا بصموده.. ولكن باختلاف خصومه فيما بينهم وفي دولهم.. فهذا الطفل المتهور لا يتوقف عن الهرولةِ ليسحق كلَ من تسوّل له نفسه الاقتراب من لُعبته التي لا يظن أنها خُلِقت لغيره.. ويسعى لإرضاء أشخاص كانوا قد وعدوه بها.

لم يسمع الطفلُ من قبلُ أن اليمنَ "مقبرةُ الغزاة" كما اعترف الرومان قديما عندما غرِق الجيش الروماني المكون من عشرة آلاف جندي في رمال مأرب بقيادة ليوس جالوس عام 24 قبل الميلاد. ولم يقرأ التاريخ جيّدًا ليعرف أن آخر تدخل عسكري كان للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي أرسل ما يُقارب من 70 ألف جندي مصري لليمن حين نشبت الحرب الأهلية عام (1962). وانسحب منها بعد أن قُتِل الكثير من هذا الجيش إما بالخنجر اليمني أو من العطش في صحرائها.

بكل أسفٍ وحُرقة.. سيذكر التاريخ يومًا ما أن هناك أطفالا كُثرًا قُتلوا أو تنتظرهم الكوليرا لتفعل ذلك.. بسبب طفل آخر كان يهوى لُعبته التي افتعل لحرصهِ المتهور على امتلاكها كثيرا من الأخطاء التي ستؤول مستقبلا إلى جعل الكبار ينكثون بوعدهم له.. لأن اللعبة ما زالت كبيرةً عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر التصريحات والأرقام:
* موقع BBC الإخبارية.
* موقع DW الإخبارية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.