شعار قسم مدونات

رشيد طه.. سلام على صوت أطربنا وروح آنست وحشتنا

blogsرشيد طه

شاب رشيق ذو قبعة وشعر طويل، يتراقص على خشبة المسرح مزهواً مرحاً، تارة هنا وهناك يرسل ‏تحاياه لجمهوره ويشعل فيهم جمال ما يدندن من كلمات وإيقاع، ينادي الشباب وجمهور ‏المهاجرين المرتحلين بلا عودة، يخاطب راكبي الأمواج.. الحاملين أرواحهم على أكفهم في رحلة ‏الخطر، كان واحداً من أوائل من نشأ في بلاد غير بلاده، كان أبواه قد عزما على الرحيل عن ‏الوطن، رحيل جعل منه ذلك الشاب الذي ما انفك عبير وطنه يسكنه يوماً بعد يوم، رسالته ‏ستعرِّفه عن نفسه، هو ابن بطاقة إقامة «‏Carte de Séjour‏»، إنه "رشيد طه" ذلك الذي رحل ‏عن عالمنا بخشوع كشخصيته الهادئة وبحة صوته الخجولة.‏

لعلني أخطئ إن قلت أن كلمات "يا الرايح" ما انفكت تلامس قلوب وعقول كلٍ منا، وما يدعوني ‏لأكتب عن رشيد هنا هو بلا شك أن ما حاول التعبير عنه قبل ما يقرب من عشرين عاماً لا يزال ‏يلامس أرواحاً كثيرة، بل هو لا يزال يدمي عيون ملايين المشردين والمبعدين والمهجّرين. رشيد ‏الذي عرف كيف يدخل لقلوب كل هؤلاء، ظل يعيش تلك الحالة من الاغتراب والحنين، هو لم ‏يدرك ما إذا ندم فعلاً أو لا على مكوثه حتى رحيله هناك، تماماً كما كان يتساءل مع جمهوره ‏‏(وأقصد هنا جمهور أقرانه من المهاجرين) عن جدوى الاستمرار في "الندم" كما سماه، وعن ‏جدوى إفناء شبابه بين تلك البلاد العامرة بالفوضى والخلاء العاطفي.‏

ما يدعو للدهشة في تناول قصة رشيد طه برأيي هو تجربته في أداء موسيقاه الخاصة وإيقاعه الفريد ‏الممتزج طبعاً بمذاق "الراي" الساحر، رشيد وأصدقائه من مغني الراي كانوا بلا شك خير رسل ‏للثقافة المغاربية في المهجر، جيل المهاجرين الأوائل كما تطلق عليهم الصحافة والإعلام، كانوا ‏شديدي الاهتمام بأسماء المدن والأحياء والأصدقاء وذكريات الطفولة، غنوا للعائلة كثيراً ولأمهاتهم ‏أكثر وأكثر، كانت الأم في أغنية الراي هي بمثابة القديسة التي يُرجى منها البركة والرضا، كما ‏تناولت أغاني المهجر قضايا المغتربين الاجتماعية الكثيرة مثل (العمل، الحب، الخداع، ‏الخيانة، المرض، العنصرية، الفقر، البطالة والسفر…)، ولعل ما حاولت معالجته أيضاً هي تعلق ‏المغترب بمحبوبته في بلده، وكيف أن عامل البعد الجغرافي كان سداً منيعاً أمام تحقيق الأمنيات ‏في التحصل عليها، يعيش المغترب في تحديه هذا متزعزع العاطفة، شديد الاشتياق لمجرد نظرة ‏خجولة من محبوبته، معاني كثيرة جداً جسدتها ألحان الراي والأغنية المغاربية في المهجر تلفت ‏الانتباه وتجذب كل حيران وملهوف.‏

‏"رشيد" الآن قل لي يا صاحب القبعة، لماذا كنت تشاركنا ليالٍ كثيرة بصوتك وحضورك؟ أخبرنا ‏كيف كانت غربتك الطويلة وأنت تنصحنا بالعودة؟ ما وسيلتك التي ألِفْتها حتى تعتاد على تلك ‏الرتابة في الحياة بعيداً عن حياة الوطن؟ هل كنتَ حقاً مغبوناً داخلك وخبئت ذلك عنا؟ قل لنا ‏فقط كيف لك أن ترحل بعلة في قلبك؟ هل غلبت ذبحة صدرك تلك ما يؤلمك في يدك؟ لعلني ‏أثقلت عليك بالسؤال، لكننا نريد أن نطمئن ولو قليلاً على قلوبنا يا "رشيد"، على زَهْرنا وصُغرنا ‏ونومتنا وسَفرتِنا وجمالنا ولا أخفيك سراً.. على صبرنا أن ينخر فيه بعض جزع وفتور، وكما تعلم.. ‏فالصبر رفيقنا جنباً إلى اليأس. ‏

يا "رشيد" لا يهم إن كانوا "لا يمررون العرب في التلفزة" كما قلتَ، لكن أطمئنك تماماً أنك مررت ‏إلينا رغم كل شيء، مررت لقلوبنا وأرواحنا، بل مررت في دندنات كلماتنا العابرة بين أيامنا التي ‏مللنا عدَّها، محفوظة نصائحك لنا (بالرغم من عدم العمل بها) في قاموس كل المغتربين ‏الحائرين، "يا الغايب في بلاد الناس شحال تعيا ما تجري"، "يا حليلو ومسكين اللي خاب سعدو ‏كي زهري"، "يا النايم جاني خبرك كما صرالك يصرالي"، "شحال ندمو العباد الغافلين قبلك ‏وقبلي".. سلام عليك يا "رشيد" وسلام لقلبك الذي عاش بطاقته ومقاومته حتى النهاية، شكراً لك ‏من كل المهاجرين والمغتربين والحيارى.. لقد آنست بصوتك وحشة أيامهم وربتَّ ولو بشيء ‏قليل على أرواحهم المهشَّمة وأجسادهم المتعبة وعيونهم الملآى ببشاعة ما حذرتهم منه. ‏

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.