شعار قسم مدونات

مكتبة ومقهى أمازون.. والرهان على الإنسان

blogs أمازون بوكس

يقيناً الحياة مليئة بالمفاجآت ولكني أعتقد أن الشوارع وخاصة للمتأمل اليقظ بها مفاجآت أكثر أعمق في دلالاتها وجدليتها، ولذلك تستحق بعض الشوارع أن تلقب أحيانا بالمدرسة. كنت قد خرجت من حرم جامعة جورج تاون العريقة ومقرها واشنطن العاصمة، متوجها إلى شارع إم الشهير، شارع مدينة جورج تاون التجاري المفعم بالحياة والمحاط على جانبيه بالمحلات المتنوعة والمقاهي والمطاعم. مشيت في الشارع بهدوء متوجها إلى مقصدي، ولكني أسرق اللحظات والدقائق دائما في مثل هذه المدن لأتأمل سعادة البشر وتفاعلهم البديع مع الشارع وأنشطته. أتحرك وأنا في درجة تركيز عالية لا ينافسها إلا اللحظات التي أتوقف فيها أمام موقف إنساني أو مبنى معماري لأوثقه بكاميرتي الصغيرة، أو أن أدون سريعا ملاحظة يولدها في عقلي ووجداني كم وثراء المشاهد المتتالية، وخاصة المتعلقة بتفاعل الإنسان مع المكان.

 

مشاهد مثل الرجل الذي يعزف الجيتار على ركن الشارع، أو السيدة التي تجلس على كرسي كهربائي مخصص لذوي الاحتياجات الخاصة وتتحرك بسلاسة على الرصيف وفي أماكن عبور المشاة التي تتعاطف معها كل التعاطف بدون عائق واحد يفسد متعتها بالمكان، أو الفتاة التي ترسم قبة المبنى التاريخي بأقلامها الرصاص الملونة. أتأمل طاولات المطاعم والمقاهي الصغيرة وهي تستوعب الأصدقاء والعائلات والأحباء. أتأمل المنافسة البديعة لوضع الزهور والورود في كل مكان: في النوافذ وعلى الطاولات وفي واجهات المحلات وعلى أعمدة الإنارة وعلى الشرفات العلوية. أتأمل حالة التوافق العام بين المباني والمحلات والحرص الرائع على الحفاظ الكامل على شخصية المكان وطابعه المعماري والعمراني.

وفجأة، ووسط حالة التأمل والتمتع والتفكر، لمحت لافتة عملاقة أعلى محل كبير على الجانب الأخر من الطريق، له واجهة ممتدة بينما كتب على اللافتة "أمازون". للوهلة الأولى خمنت أنه محل ملابس أو هدايا تذكارية يربط نفسه بهذا السياق الجغرافي المتميز لغابات الأمازون في البرازيل. ولكن طريقة الكتابة ونسقها وألوانها جعلني استفيق بسرعة وأدرك أن هذا لافتة مطابقة لشعار موقع أمازون أكبر موقع للشراء والتسوق عبر الانترنت في العالم كله. هذا الموقع الذي تأسس عام 1994 في مدينة سياتل بولاية واشنطن في أقصى شمال أمريكا الغربي.

 

يبدو أن شركة أمازون أدركت أخيرا وبعد عقود ممتدة من التجارة الإلكترونية ومليارات الدولارات من المكاسب، أن المكسب الحقيقي هو الرهان على الإنسان

بدأت الشركة باعتبارها متجرًا للكتب على الإنترنت ثم سرعان ما أدخلت التنويع على مبيعاتها لتضيف أقراص الفيديو الرقمية وأسطوانات الموسيقى وبرامج الحاسوب وألعاب الفيديو والإلكترونيات والأغذية ولعب الأطفال والألبسة والمجوهرات والإكسسوار والأجهزة والملابس الرياضية والكتب والآلات الموسيقية ثم في سنواتها الأخيرة تبيع كل شيء.

انفتح فمي تدريجيا من الدهشة وعدم التصديق، بينما دفعتني جرعات متتالية من الفضول البشري إلى حتمية استكشاف حقيقية المكان. عبرت إلى الجانب الأخر من الشارع، ودخلت إلى المحل من بوابته الزجاجية التي تساهم في انسيابه مع الشارع والمتحركين فيه، وشفافية العلاقة البصرية بين الداخل والخارج. في بداية دخولي وجدت فضاء أنيقاً متسعاً على مستويين تم تنسيقه بعناية تصميمية فائقة ليضم عوالم رفوف الكتب كما كان الحال في كل مكتبات العالم قبل دخول الإنترنت. تلك العوالم التي يعشقها كل قارئ ويجد متعة قد يصعب وصفها لحركة عيونه ويديه تلتقط عناوين الإصدارات الجديدة وتتصفح الكتب المرصوصة بعناية مدروسة.

 

وجدت أيضا سلما عريضا يؤدي إلى طابق مفتوح به مجموعة من المقاعد الملونة المريحة ومصاطب الجلوس المتدرجة، ولوحات وملصقات فنية تملأ الجدران، بينما قلب الفضاء النابض هو مقهى لتقديم أنواع القهوة والشاي والمعجنات والحلوى. قلب تخرج منه روائح القهوة الطازجة فتثير حواسك وتستفز عقلك وتنتصر على أي خاطر للمغادرة السريعة للمكان. لم أتخيل أبدا أن يكون هذا الفضاء من إنتاج شركة أمازون عملاق التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت. تلك الشركة التي حرصت كل الحرص ولمدة سنوات على أن تشجعك على الانفصال عن الشارع والالتصاق بالشاشة وتروج للشراء من المنزل وتحفزك على مزايا التجارة الإلكترونية.

 

كل الأجواء في مكتبة ومقهى أمازون الجديد مبهرة ومحفزة على التواصل الإنساني. هل هذا فعل الندم من قبل شركة أمازون تجاه مجتمع إنساني حاولت دائما الرهان على تفتيته وتمزيقه وقولبته وعزله في شرانق حريرية عنكبوتية التواصل مع شبكة الإنترنت العملاقة؟ هل هذه ثورة إنسانية تجارية معرفية؟ هل انتصر الإنسان في الحرب التي قيل لنا فيها أن الهاتف الذكي والكمبيوتر اللوحي ووسائل التواصل الاجتماعي ستجعلك منفردا، منعزلا بل منبوذا أحيانا؟ يمكن لنا بالقطع تفسير قرار أمازون عملاق التجارة الإلكترونية بالانتقال من الأوساط الرقمية إلى الأوساط المادية، وعمل حيز حقيقي فعلي مجسد في الشارع التجاري لاستقطاب البشر وتحفيزهم على قضاء وقت ممتع يتصفحون فيعه الكتب والإصدارات الجديدة ويحتسون القهوة والشاي المعطر ويتعارفون ويتضاحكون ويتناقشون.

 

نعم لقد اعترفت أمازون بالهزيمة وأنه مهما فعلت فإن الإنسان يبقى دائما إنسان. شاهدت معارك سابقة في نفس سياق هذه الحرب عندما قيل لنا أن المتاحف ستنتهي من حياتنا لأن كل اللوحات والمقتنيات متاحة الآن على أي كمبيوتر أو هاتف ذكي. ولم تتوقف أبدا مشروعات المتاحف لأن المتحف ليس فقط غلاف أنيق لتحصين لوحة، ولكنه سياق اجتماعي تعليمي ترفيهي اجتماعي تواصلي. شاهدت أيضا معركة قوامها لن تحتاج المدينة لفضاءات عامة بعد اليوم لأن الناس مشغولة بوجودها في الفضاءات الافتراضية الفيسبوكية الواتسابية. ولكن أيضا انتصر الإنسان عندما تمسك بحقه في الشارع والميدان والحديقة ولم يتوقف أبدا تفاعل الإنسان وجماعات البشر مع فضاءات مدنهم العامة.

أعود إلى واقعة الافتتاح التاريخي لمكتبة ومقهى أمازون في مدينة جورج تاون واستنتج أنه يبدو أن الشركة أدركت أخيرا وبعد عقود ممتدة من التجارة الإلكترونية ومليارات الدولارات من المكاسب، أن المكسب الحقيقي هو الرهان على الإنسان. نعم كل الوقائع والمشاهد تؤكد أنه مهما انغمس الإنسان في أدواته التقنية وعوالمه التواصلية فهناك صرخة داخله دائما تذكره بمتعة الإنسانية وعذوبة أن تكون إنسانا وهو ما يتحقق إلا في وجودك المادي وليس الافتراضي حول أو بالقرب من إنسان أخر أو مجموعات من البشر. أعتقد أن شركة أمازون العملاقة تستحق الثناء لأنها جسدت بافتتاح فرعها تحول نوعي يوثق لمكانة الإنسان لأنه حقا هو الرهان الأول والأخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.