شعار قسم مدونات

تذاكي النخب العربية في تناقضها الذاتي!

BLOGS-ثورة

يُطلِقون شعارات ومقولات ومصطلحات ودعوات، يَشغَلون بها الدنيا والناس، وقد لا يأخذون بها في واقعهم ولا يمتثلون لمقتضاها في مواقفهم. يتمسّح أحدهم بالعلم ويحتجّ بالعقل ويستغلّ العاطفة ويتذرّع بالقيم، لتقديم ما يناقض العلم ويتصادم مع العقل ويهوي بالعاطفة وينتهك القيم. ‏يقومون بتنزيل المبادئ والأحكام بشكل انتقائي، أو ‏يحرِّضون على استعمال النقد اللاذع في اتجاهات شتى؛ ويتحوّطون من أن يرتدّ النقد صوْبهم، وقد يطوِّقون أنفسهم بهالة من التمجيد أو التقديس. إنها قطوف من مسالك ملتوية وتناقضات ذاتية جسيمة تطفح بها الحالة العربية الراهنة، وتبدو النخب والمؤسسات والمنظمات والأنظمة ضالعة في هذا المشهد بكل ما ينطوي عليه من مفارقات فجّة.

 

مسالك المتناقضين الملتوية

تتجلّى في واقع النخب وفرة من التناقضات الذاتية وما فوقها، لكنّ بعضها يتذاكى بالمراهنة على ذاكرة قصيرة لدى الجمهور، أو يراهن على استدعاء مقولات ذرائعية تبرِّر انقلاب أحدهم على عقبيه، وقد تحتفي الصفوة بتناقضاتها هذه، وتعدّها برهاناً على صدق التزامها بالحقّ لمّا انجلى لها الموقف؛ فتجعل مسالكها الملتوية استقامة صادقة واستدراكاً حميداً وتناقضاً رشيداً.

 

تعبِّر بعض التناقضات عن اختلال في المنظور واضطراب في المفهوم، أو قد تكون بذاتها من مسالك التضليل التي تنخرط فيها النخب مع سبق الإصرار والترصّد، كأن يظهر أحدهم ثورياً وقت الثورة، ثم ينقلب عليها إنْ أُطيح براياتها، ولا يعجز عن تبرير مواقفه جميعاً على تقلّبها وقد يعمد إلى تجميل تناقضاتها. لا يتورّع بعضهم عن التلوّن الفكري وفق كل موجة، والتقلّب السياسي حسب كل مرحلة، ليضمنوا صعودهم فوق الأمواج وتصدّرهم عبر المراحل.

 

‏يتناقض بعضهم مع ما جاؤوا به في أمْسِهم، ويقولون في يومهم ما سيخالفونه في غدهم، معتمدين على سذاجة جماهير تنازلت عن حسِّها النقدي. ولا يفوت ‏بعض هؤلاء أن يستغلّوا نزعات الحيارى بعد إدراك مداخلهم، فيخاطبون نقاط ضعفهم بتعبيرات محسوبة للإمساك بخطامهم، ثم يسوقونهم إلى حيث يرغبون، أو إلى حيث ترجو السلطات أو مراكز القوى التي يتواطؤون معها.

 

‏يستغلّ بعضهم حاجات الجمهور النفسية أو عواطف الناس الدينية أو شغف الأجيال المعرفي أو مشاعر القلق السائدة؛ للهيمنة على الوعي والتسلّل إلى الوجدان والإمساك بخطام العقول. إنهم ‏يُناوِرون ويتذاكون، ويُسايِرون ظواهر تعلو في المجتمعات محاولين توظيفها لغاياتهم، ويدغدغون مشاعر الجماهير لاستلاب وعيها وكسب موثوقيتها. ثم إنهم ‏يُشيدون بالجماهير إن استلَبوا أذهانها وصادروا إرادتها، ولا يفوتهم وقتها الثناء على "ما تتمتع به من وعي وبصيرة"، وقد يصفونها بالذكاء وحرية الإرادة.

 

تناقضات ذاتية في المشهد المؤسسي
تدفع بعض أنظمة التعليم العربية بالأذكياء والنابغين ليتأهّلوا "للتصدير" إلى دوحات العلوم والبحوث والابتكار والصناعة في عالمنا، ثم تحتفي بلدانهم بهم عن بُعد عندما يصعدون في دول غربية ويحصدون الجوائز

ترفع أحزاب ومنظمات ومؤسسات عربية شعار "الديمقراطية"، دون أن تعرف منذ تأسيسها سوى وجه فريد لا تبديل له، تُمسِك أصابعه بالخيوط جميعاً، وقد لا يبقى التشكيل قائماً من بعده. لا يحتمل بعضهم أن يكون مرؤوساً، فإما أن يظلّ أحدهم هو المتصدِّر الأوحَد أو ليحتمل القومُ الطوفان من بعده. وإذ يتباهى مسؤولون في مؤسسات عامة وأهلية وشعبية عربية بشعارات "تحديث" المؤسسات، و"تطوير" الوزارات، و"تقدّم" الدول، و"العبور إلى المستقبل"؛ فإنّ النظرة الفاحصة تكشف عن أنهم ليسوا مسؤولي مؤسسات أو قادة يُديرون دولاً؛ فالواحدة منها هي مؤسسة المسؤول أو دولة القائد، وأنّ لفظة "مسؤول" الشائعة هذه ليست سوى تعبير مجازي، فهل يُسأَل أحدُهم في مؤسسته أو دولته عمّا يفعل؟!

 

ومن تناقضات النخبة أن تتغنّى باعتمادها مناهج "الإدارة الحديثة" واعتدادها بالتخطيط الاستراتيجي، لكنّ بعض أوساطها تمارس التخطيط وتقدير الموقف أو تستعمل أدوات تحليلية بغرض إقناع ذاتها وغيرها بأنّ وُجهتها المُبرمة سلفاً بارعة ودقيقة، وأنّ استنتاجاتها المُسبقة صائبة وصحيحة، وأنّ اختياراتها الأوّلية سديدة ورشيدة، دون أن تَقوى على النظر الثاقب للحال والتخطيط المتجرِّد عن الهوى؛ خشية الاضطرار إلى الاستدراك والإصلاح والتصويب مما لم تتهيّأ له أساساً. وهكذا ترضخ بعض جهود التخطيط لأحكام مُسبَقة منعقدة عند أصحابها؛ بما يُسعِف أهلَ الشأن في التعامي عن تفشِّي الخلل واستشراء العلل، فتتعاقب الاستنتاجات المحبوكة التي كانوا يرغبون بها ابتداءً، ويدورون مع أهوائهم حيث تدور.

 

في مشهد العلم والتعليم

تدفع بعض أنظمة التعليم العربية بالأذكياء والنابغين ليتأهّلوا "للتصدير" إلى دوحات العلوم والبحوث والابتكار والصناعة في عالمنا، ثم تحتفي بلدانهم بهم عن بُعد عندما يصعدون في دول غربية ويحصدون الجوائز، دون أن يصارح العرب أنفسهم بأنّ أبناءهم وبناتهم هؤلاء صاروا رصيداً لأمم أخرى في الأساس؛ وإن احتفى بهم المنشأ وكرّمهم واستعمل أسماءهم في الدعاية الرسمية. أما المُبتَعَثون العرب فإنّ من يعود منهم بشهادات عليا من جامعات العالم؛ فإنّ عليه ترك بعض الخبرات المستجدّة وراءه دون استحضارها إلى مسقط رأسه، لأنه لا يرى ترحيباً بالإصلاح ولا حفاوة بالتطوير. على حاملي الدرجات من أبرز أكاديميات الأرض أن يصيروا موظِّفين منضبطين في بلادهم العربية، كي يتقلّدوا الألقاب والدروع والعلاوات تكريماً لانصياع يصرفهم عن أولوية إصلاح الأحوال وتحسين الأوضاع.

 

وعندما تتباهى بعض الدول بإقامة قرى ذكية لتركيز القدرات التقنية والمعلوماتية؛ فإنّ ما تقصده هو الذكاء التقني وليس السعي إلى استنفار ذكاء شعوبها أو تحفيز عبقرية أجيالها. فالأولوية الرسمية هي لإغراق الجماهير بخطاب دعائي ساذج يُورِثها بلاهةً مُستشرية، بما يُعين على الانصياع الأعمى لوُجهة الحُكم والحاكم. إنّ محاولة تشغيل العقل بصفة مستقلّة قد تقود صاحبها إلى فقدان الامتيازات أو حتى إلى الإقصاء أو السجن، ولا منجاة من سوء العاقبة سوى بالانخراط في جولات التصفيق مع إمساك اللسان عن البوْح بما يُمليه الوعي والضمير.

 

وإن تسابقت دول عربية إلى توطين مؤسسات أكاديمية غربية فيها؛ فإنها لا تتنازل عن تقييد الحرية الأكاديمية ولا تتراجع عن رفضها الصارم لتشكيل اتحادات للطلبة؛ وإن كانت من ركائز الحياة الأكاديمية ذاتها، فهي تطلب بريق لافتة يعلو مصنع شهادات. وإذ يحتفي القوم بالتعاقد مع جامعات أوروبية ويسعون إلى استضافة فروع للسوربون مثلاً لقاء أموال سخية؛ فإنهم يرفضون من أعماقهم منطلقات الثورة الفرنسية ومبادئها وأفكارها جملة وتفصيلا، فما يريدونه هو ألَق فرنسا دون تعاليم ثورتها. ليس بعيداً عن هذه التناقضات أن تُطالِب جمهرةُ النخب بالعناية بالعلم وتكريم العلماء، ثم تنخرط في تأجيج حملة الذمِّ المسلّطة على العلماء المستقلِّين، دون التورّع عن تشويههم ورميهم بالتطرف والإرهاب، وتخويف مَن لديه بقيّة من علم وفهم من مغبة الالتحاق باتحادات وروابط علمائية بعد أن تم تكثيف وصمة اتهامية بحقِّها.

 

أمّا ضمن المشهد العلمائي ذاته؛ فمن المألوف أن يُلِحّ بعض متحدِّثيه على طلب التقدير والتوقير من الجمهور، ودفع النقد والمساءلة عنهم بتضخيم مقولة الحافظ ابن عساكر: "لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة". ثم تجد هؤلاء أنفسهم يُبادرون إلى شنّ حملات الذمّ والتشهير بحقِّ قامات علمية تعلوهم علماً وفضلاً والتزاماً بالحق؛ ونهش لحومها في الشاشات والشبكات. وقد يحظى بعضهم في المشهد العربي بأفخم ألقاب العلم والمعرفة والموسوعية والتجديد حتى إن اكتفَوْا بإطلالات مرئية لا يتجاوزونها إلى جُهدٍ علمي مُحقّق، وقد لا يجود المتحدِّثون البارعون هؤلاء من ذوي الوجوه النّضِرة على جمهورهم بكتاب منشور قابل للفحص أو ببحث مسطور معروض للتمحيص، دون أن يَرَوْا غضاضة في الأمر.

 

وإن احتفت الجمهرة المفتونة بمَن تراهم علماء ومفكرين وعباقرة ممّن "عجزت الأرحام عن أن تدفع بأمثالهم"؛ قد يتّضح أنّ الشخص المرئي في الشاشات والشبكات هو الموضوع، وأنّ تمجيده هو الفكرة، فيأخذ الأتباع أو "المحبّون" عن أحدهم كلّ ما يأتي منه جملةً دون تدقيق أو فحص. فمن عادة الجمهرة المفتونة تمجيد "مفكر عظيم"  أو "مجدِّد بارع" أو "دكتور متألِّق" أو "علاّمة بروفيسور" حتى دون القدرة على سرد بعض أفكاره بوضوح أو تفصيل القول في بعض مضامينه، سوى محفوظات مختزلة ذات نزعة شعاراتية. إنه تعبير وفيّ عن الالتزام المُخلِص بآصرة "الشيخ والمُريد" في الزمن الشبكي، وفي هذه الحالة الطرُقية الجديدة حشدٌ من أموات بين يدي مغسِّلهم، وقد تحسبهم أيقاظاً وهم رقود.

 

تتطرّف بعض الأبواق والأصوات العربية في استعمال ورقة التطرّف، حتى أنّ بعضهم يتذرّع بالتحذير من التطرّف بينما يتّكئون عليه في تبرير مقولاتهم وتمرير خطاباتهم
تتطرّف بعض الأبواق والأصوات العربية في استعمال ورقة التطرّف، حتى أنّ بعضهم يتذرّع بالتحذير من التطرّف بينما يتّكئون عليه في تبرير مقولاتهم وتمرير خطاباتهم
 
في مشهد "المراجعة والتجديد"

من تناقضات النخب أن يُطالِب بعض متحدِّثيها بفتح باب الاجتهاد في الإسلام وعلومه؛ وهم أسرى عقلية متكلِّسة أغلقت باب الاجتهاد في عالم الأفكار والفلسفات الإنسانية فلا يقبلون معها تحويلاً ولا تبديلاً، وكأنها بلغت نهاية التاريخ. وقد يذمّ بعضُهم الركونَ إلى أقوال السالفين ويَستقبِحون الإتيان بآراء من أزمان مضت، ويعدّون ذلك سلفيةً ظلامية أو ماضوية مقيتة، دون أن يتورّعوا عن الاغتراف من مقولات سلفية أوروبية صيغت في قرون غابرة ويعدّونها حجّة في الأمر تقطع قول كلِّ خطيب.

 

وفي حملة بعض النخب على النصّ الديني؛ تجد منهم من يطعن في رواية أحاديث نبوية بالتشكيك في سندها وتضعيف روايتها، ويأتون في سبيل دعم موقفهم بروايات هشّة ينتقونها وفق أهوائهم وبأقوال ضعيفة يلفِّقونها وفق مُبتغاهم. يفرض آخرون أحكامهم المُسبَقة ثم يبحثون عن أي "إثباتات" تؤيِّدها كي يبدو تعسّفهم هذا تقديراً علمياً ومقاربة منهجية. يقضي هذا المسلك بتسويغ كل رأي وتبرير كل موقف دون مشقّة، عبر اللجوء إلى حجج انتقائية لا يَشُقّ على أحدهم العثورُ عليها في أي اتجاه كان. وقد يَرُدّ بعضهم نصوصاً بدعوى أنّ عقولهم لا تستسيغ تأويلهم الساذج أو المنحرف لها، ثم يحتفون في مواضع أخرى بخرافات فجّة ومبالغات لا تستقيم عقلاً ولا تستوي مَنطِقاً.

 

من المألوف أن يُمارس بعض المتحدثين هواية الاجتزاء لإدانة غيرهم؛ لكنهم يَخشَون من ممارسة الاجتزاء عيْنه معهم، وقد يُطلِقون تحذيراتٍ محقّة؛ من أنه ليس سلوكاً أميناً مع النصوص وأصحابها، إدراكاً منهم بأنّ استعمال الأسلوب ذاته مع أي شخص كان يكفي أحياناً لجرِّه إلى مِقصَلة معنوية. وينضح المشهد الشبكي العربي بنصوص ومقاطع مُرسَلة لا يتّضح فيها سند النقل، فتنساح عبر الشبكات نقلاً عن مجاهيل، لكنها مُخصَصة لاتهام كٰتب مرجعية ونصوص مؤسِّسة بأنها مبنية على مجاهيل ومنقطعة الصلة بالصحة والتثبّت. لا تُعين هذه النصوص والاقتباسات على التحقّق والتثبّت درايةً ورواية، فما يشغل أصحابها وناقليها، مثلاً، هي أولوية الطعن في الحديث الشريف روايةً ودراية، أو تقويض ما يستهدفونه من نصوص وأحكام أو قامات وهامات.

 

تتذاكى بعض نخب "النقد والمراجعات" عندما تُسَدِّد سهام نقدها في اتجاهات محسوبة؛ مع إعفاء أهداف معيّنة منها حسب أهوائها ومصالحها، ولا يكفّ بعضها عن تحصين موقفها بمقولات ذرائعية أو الاحتماء بحجج منسوجة بعناية لدفع النقد والمناقشة عنها. وبعد أن انهمك بعضهم في ذمّ "التكفير" الذي ينشغل بإخراج الناس من الملّة، باشروا طريقتهم الخاصة في "التكفير" التي تقوم على اتهام الملّة في إيمانها والتشكيك في حقيقة اعتقادها. فعند هذه المدرسة "التكفيرية" الحديثة التي تتذرّع بالعقل والضمير؛ يقال تصريحاً أو يُذكر تلميحاً أنّ المسلمين ليسوا على الحقّ الأمثل إن هم وُلِدوا في أسر مسلمة، فهم بهذا لا يقومون على إيمان مؤكّد، بما يُوجب عليهم أن يخوضوا تجربة شكّ اعتقادي وأنها فضيلة تتقدّم على حالهم هذه، حتى قال بعض متحدِّثي المدرسة ذاتها إنّ "الملحد" يتقدّم على جمهرة المسلمين في محبّة الله له؛ لأنه سعى في طلب الحقّ وهم لم يسعَوا.

 

ومع موجة نَثْر الشكوك في وعي الجمهرة؛ تتّسع الساحة لمزيد من التناقضات، ومنها أصوات عربية أخذت تنتقد شعيرة الأضحية، مثلاً، باستعراض حسبة تعسفية لمجموع الإنفاق على الأضاحي الذي "يكفي لإقامة مدارس ومشافٍ" بحسبانهم. لا يجرؤ هؤلاء على نقد مجالات عدة من الهدر العام والبذخ الخاص، إذ تعميهم مشكلتهم الأيديولوجية أو موقفهم النفسي عن الأدوار التراحمية والتكافلية لبعض الشعائر، ويتغافلون عن أنّ إقامة المرافق العامّة إنما تقع على عاتق الدولة أساساً؛ وليس الجمهور الذي يُلقى على عاتقه بأعباء متثاقلة. ومن ملابسات الحالة أنّ الناظر إلى المشهد العربي قد يَعثُر على نخب هندسية تقود مرافعات فكرية، ونخب طبية تتصدّر حوارات فلسفية، ونخب إدارية تهيْمن على مراجعات تاريخية، ونخب وعظية تستبدّ بمقاربات استراتيجية، ونخب تقنية تُمسِك بمدارسات اجتماعية، ونخب فنية تصادر نقاشات دينية. وإن بدت هذه حالة صحية في بعض وجوهها؛ فإنها تشي باضطراب عارم منفلت منهجياً في وجوه مقابلة.

 

في مشهد الحوار الحضاري
يرفض بعضهم النصوص المقدّسة، ثم يقدِّسون نصوصاً لرافضي النصوص المقدسة، وقد يعظِّمون أصحابها ويحتفون بصورهم ويقتنون أصنامهم، ويتّخذون لها مواقع بارزة في بيوتهم ومكاتبهم

توجّهت معظم مساعي الحوار بين الحضارات والتلاقي بين الثقافات إلى محطّات غربيّة لا تكاد بعض الدول والمؤسسات والنخب ترى سواها من حضارات العالم وثقافاته، حتى عميت الأبصار عن وجهات قريبة ربما كانت أجدى نفعاً وأقلّ كلفة. ولمّا التمَس القومُ التفاعلَ الحضاري مع أمم أخرى؛ فإنهم تجاهلوا الوافدين الذين يخالطون مجتمعات عربية في أعماقها ويخالجون مجالات عيشها وأسواق عملها ووجهاتها السياحية. بحَث حوارهم مع "أمم العالم" عن مقصده بإقامة مؤتمرات وندوات في أروقة فخمة في عواصم قاصية، وغضّوا الطرف عن ملايين الآسيويين والأفارقة المنهمكين في تدبير بيوت العرب وتشغيل مطابخهم وتربية عيالهم وقيادة سياراتهم وتسيير أعمالهم. دفعوا أموالاً طائلة لحملات العلاقات العامة و"تصحيح الصورة" في الخارج؛ وواصَلوا إهمال فئات وشرائح جاءت من الخارج لكسب الرزق دون أن تجد إنصافاً كافياً أو ضمانات حقوقية أو رعاية لائقة.

 

في مشهد التدين والتطرف

تتطرّف بعض الأبواق والأصوات العربية في استعمال ورقة التطرّف، حتى أنّ بعضهم يتذرّع بالتحذير من التطرّف بينما يتّكئون عليه في تبرير مقولاتهم وتمرير خطاباتهم. واقع الحال أنهم يُحَذِّرون من التطرّف بينما هم مَدينون له بكثير من الفضل في حضورهم في المشهد العام وفي كسْب قوت عيشهم بزعم الاشتغال بمكافحته. يَحصُر بعضهم مسألة التطرّف بالدِين والتديّن، ويتجاهلون التطرّف المشهود لدى بعض المنتسبين إلى فلسفات وأفكار، أو المنخرطين في اتجاهات سياسية ومذاهب مجتمعية، وغيرهم من الآخذين بصيحات مخصوصة في الأزياء والاختيارات الاستهلاكية.

 

وقد عاب بعضهم على الذين ارتأوا تقصير ثيابهم انطلاقاً من فهم مخصوص للسُنَّة النبوية، ولم تستوقف الناقدين هؤلاء ثقوبٌ وفجوات أحدثتها الجمهرة في ثيابها تقليداً لسُنّة فرضها سدنة الأزياء. أمّا إعفاء الذقن وإرخاء اللحية فقد كانا مسلكاً مذموماً عند بعضهم لمّا جاء بوازع ديني؛ لكنهم استساغوه وتصالحوا معه عندما فشا في المجتمعات بدافع الالتحاق بصيحاتِ تنسيقِ الهيئة واتجاهات تصفيف الشعر. لم تَعُد اللِّحي المتطاولة موضوعاً للذمّ عندهم، فأين كانت مشكلتهم تحديداً؟ ويجوز الاستنتاج، إذن، بأنّ المظاهر التي ينبذها أولئك المتحاملون، ستغدو بهذا المنحى موضع ترحيب وتأسٍّ إن طرقت الأبواب من بلدان غربية أو هبطت على المجتمعات عبر طقوس مُعولَمة.

 

في مشهد الإيمان والمقدس

يرفض بعضهم النصوص المقدّسة، ثم يقدِّسون نصوصاً لرافضي النصوص المقدسة، وقد يعظِّمون أصحابها ويحتفون بصورهم ويقتنون أصنامهم، ويتّخذون لها مواقع بارزة في بيوتهم ومكاتبهم. يُعلن أحدهم، مثلاً، أنه يسأم الهيمنة الفوقية عليه، فيتعالى على الإيمان بالله تعالى بنزعة متمرّدة تتباهى برفض "الوصاية"، ثم ينصاع "المتمرِّد" ذاته بإذعان مُذهِل لمديره في العمل إن استدعاه إلى مكتبه، أو تراه يتضعضع لموظّف عمومي يهمّ بتحرير مخالفة مرورية له.

 

ويميل بعضهم إلى نفي الغيْب ثم يُضطرّون إلى تشكيل وعيهم الغيبي المُستتر؛ وإن سكتوا عنه أو اكتفوا بالإيماء إليه بإيحاءات خجولة أو بإشارات ملتبسة. وتجد بعض الذين يزعمون أنهم مُلحِدون؛ يُنكِرون النبوّة والأنبياء، ثم يصعدون ببعض البشر إلى ما يُحاكي مقامَ النبوّة إن راقت لهم أقوالُ الذين تحيط بهم هالات التقدير. ومن تناقضات المشهد أن يملك بعضهم جرأة المطالبة بمراجعة الكتب المقدّسة وفحص ما يأتي فيها؛ ولا يملكون في الوقت ذاته شجاعة المطالبة بمساءلة راسمي السياسات التي أشعلت الحرائق، أو مناقشة ما يقرره القابعون في القصور أو الجالسون في المكاتب العلوية؛ لأنهم يخشون دفع ثمن الموقف من حظوتهم، ويرهَبون ضريبته على فرصهم في العيش.

 

في ثنائية الديني والسياسي

هاجَم بعضُهم مقولة "الإسلام هو الحلّ" التي صعدت في ثمانينيات القرن الماضي، لأنهم عدّوها شعاراً مُختزَلاً ومقولة فضفاضة واستعمالاً فجّاً للدين، ثم دار الزمان دورته وأخذ الناقدون أنفسهم يرفعون مقولة "العلمانية هي الحلّ" التي تقوم على المنطق ذاته الذي نبذوا به الشعار السالف. ولا عجب أن يحاول بعضهم إقصاء "الديني" عن "السياسي" في ذريعة مألوفة لتمكين "السياسي" من الهيمنة على "الديني". فمن مفارقات المشهد العربي أن ترفض طائفةٌ من النخب "استعمال الدين في السياسة"، وهذا إن تقدّمت قوى شعبية محسوبة على التديّن لاقتطاع نصيبها من المشاركة السياسية الديمقراطية، لكنّ فريق "نبذ استعمال الدين" قد لا يجد غضاضة في الانخراط ضمن تقاليد الاستغلال الرخيص للمشاعر الدينية لصالح الحكم الاستبدادي والحاكم الطاغية، وقد يُسبِغ بعض المتحدثين مسوحَ الصلاح والاستقامة على القابضين على أمر البلاد والممسكين بخناق العباد.

 

لا مناص من الإقرار بأنّ بعض مَن يرفعون شعار الحرية أو يردِّدون مقولة الضمير أو يتمسّحون بمركزية الإنسان أو يُواصِلون تبجيل القيَم؛ هم فرسان شعارات تصعد بهم ولا يرتقون إلى مرتقاها
لا مناص من الإقرار بأنّ بعض مَن يرفعون شعار الحرية أو يردِّدون مقولة الضمير أو يتمسّحون بمركزية الإنسان أو يُواصِلون تبجيل القيَم؛ هم فرسان شعارات تصعد بهم ولا يرتقون إلى مرتقاها
 
في مشهد الحقوق والديمقراطية

يتعاظم الاهتمام الانتقائي بحقوق الإنسان في المشهد العربي، فالقوم يؤيِّدون الحقوق إن كانت لهم، ويستقبحونها إن حُسِبت لغيرهم. وعندما تحتفي النشرات الإخبارية بتقارير حقوقية فلأنها تنتقد الخصوم، أمّا إن رصدت التقارير تجاوزاتٍ ذاتية؛ فإنّ مصيرها التجاهل، على الأرجح. وقد تكاثرت في المشهد العربي لافتاتٌ حقوقية تابعة للحكومات ومرتبطة بالأطراف المتصارعة كي تتنافس في التشهير المتبادل في المنتديات الدولية وتتراشق بتقارير حقوق الإنسان، وواقع الحال أنّ كثيراً من هذه الكيانات يؤمن ببعض الحقوق ويكفر ببعض، وفق تحيُّزات انتقائية مشروطة بمخزون الفرص الاستعمالية لكل منها.

 

ويحمل فريق من النخب، ضمن المشهد العربي ذاته، لواءَ "الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة"، حتى إذا ما حانت ساعة الحقيقة وآن أوان الموقف؛ أخذ أولئك الذين يزعمون أنهم "حداثيون" و"تقدّميون" ينزلقون تباعاً إلى خنادق الحكم العسكري السلطوي الماضوي، ويرمون القوى الشعبية الصاعدة انتخابياً عن قوس واحدة. اعتاد هؤلاء فيما مضى التحذير من فريق سيصعد عبر صندوق الاقتراع ثم يحتكر الحكم له من بعد، وإذ بالمحذِّرين يصطفون مع صاعدين إلى الحكم على ظهر دبابة عسكرية تسحق المعتصمين في الميادين وتُراهِن على إبقاء القيادة المتسلِّطة إلى الأبد.

 

لا مناص من الإقرار بأنّ بعض مَن يرفعون شعار الحرية أو يردِّدون مقولة الضمير أو يتمسّحون بمركزية الإنسان أو يُواصِلون تبجيل القيَم؛ هم فرسان شعارات تصعد بهم ولا يرتقون إلى مرتقاها أو يمتثلون لمقتضاها، فما يطلبونه من إطلاق الشعارات السخيّة هو كسب التقدير وحيازة التكريم، وقد ينقلبون على أعقابهم في واقع التجارب واختبارات المواقف.

ليس بعيداً عن هؤلاء تصول وجوهٌ وقع إبرازها وتلميعها لاحتواء المشهد "العلمائي" و"الوعظي" العربي وتجول لممارسة التحريف والتدليس والتلاعب، ولتبرير انحرافات سياسية وفكرية فجّة. يرى بعض هؤلاء أنّ طاعة ولاة الأمر واجبة بلا تردّد، ولو بمخالفة طاعة الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد يوحي بعضهم بأنّ ما يأتي به ولاة الأمر إنما يوافق الشرع دوماً. وقد حرّم هؤلاء على أنفسهم التفوّه بمفردات الحقّ والعدل والقسطاس المستقيم. لكن ما العمل في بعض البلاد والأزمان إن اكتشفت جماهير طيِّعة أنّ وليّ أمرها خاضع لوليّ أمره، من أرباب الهيمنة على أقطار الأمّة؟ أتكون عليهم الطاعة المطلقة لولي الأمر بما تستبطنه من طاعة وليّ وليّ الأمر من فوقه؛ وإن كان قابعاً في دار بيضاء في شارع بنسلفانيا، في حاضرة يُقال لها واشنطن دي سي؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.