شعار قسم مدونات

أتمنّى لو كنتُ لا أتمنّى!

blogs تأمل

جلستُ متأمّلاً وصامتاً حدَّ الاضطرابْ، وهل ما أكتبُ فيهِ خيرٌ، أم أنّني مجرّدُ كذّابْ، لا أكتبُ في السياسة خوفاً من تداعيات الحال، ففي دولة ما، حتّى السكوتُ عنها أدّى إلى اعتقال! إذنْ، سأكتبُ في الأدب، ولكنْ، هل لديّ من القَصص ما يكفي للعجبْ، وإنْ كتبتُ في الفلسفة، فالأمر نخبويّ، ولن تكون النّاس فيه مستبسلة، ولا عمقَ لديّ في طرائق العلوم، فلم أجدْ فيها مُتعةً، والطريق المسدودُ فيها شيءٌ من اللزوم، اختلطتْ الأفكار وصارتْ مصدر قلقٍ وإزعاجْ، فقررتُ الشُروعَ بشيءٍ خياليّ وفيه ما فيه من تقريعٍ للدماغ.

 

بدأتُ بالتمنّي، وبدأتُ أجمعُ كلَّ ما يخطر على بالي، ممكنُ الحدوثِ أو مستحيلاً، نافعاً كانَ أو بالي، نعم، سأتمنّى، فلم يُصبحْ بعدُ جريمة، سأتمنّى، وإنْ كنتُ في شكٍّ في صدقِ الطريقة، وهل هي ناجعةٌ وسليمة؟ 

 

أتمنّى لو لمْ أكنْ لاجئاً، وأعيشُ فلسطينياً فائزاً، أتمنّى لو أنّني في أكنافِ بيت المقدس، أُصلّي الجُمعةَ في الأقصى، ومن ثمَّ أجول في أسواقها متمعّناً في محلاتها، وما فيها من آثارٍ ومَلبَس، أتمنّى لو أنّ "بلفورَ" لم يُوجدْ، ولم يُعطِ بني صهيون وعداً لتتمدّدْ! أتمنّى لو أنّنا لم نتخاذل، لكانتْ فلسطينُ لنا، ولم نسمع بكلمةِ "نتقاتل"، يا أخي هذا ضربٌ من الخيال، فالحياةُ قتالٌ في قتال! أعلمُ هذا؛ ولكنّ الحُرقةَ أخذتْ مجدها في قلبي، ولا طاقة لي بشيءٍ إلّا في التمنّي، أسيعطيني الله عمراً لأرى تحريراً؟ أمْ سَأَمُتْ والحسرةُ في داخلي تُدمِّر تدميراً.

 

أتمنّى في أنْ أستمرَّ في التمنّي! فمفاهيمُنا امتلأتْ بالعطبْ، ولا أدري إنْ كانَ ما قُلتُ هنا سيدورُ حوله الشغبْ، لأفقدَ حماستي وما فيها من سبب!

سأتمنّى وفي كلِّ شيء، أتمنّى أنْ لا أرى فقيراً، قلبُه مكسورٌ وطموحه يتجلّى رغيفاً، أتمنّى حناناً عليه، منْ أصحابِ أبراجٍ تطول وتطول، يعلمون حاله وأنّ لا شيئاً لديه! ولمَ كلَّ هذا الاضطهاد والسحقْ، ألمْ يعلموا أنّ دنيانا فانية نهايتها حسابٌ وحقّْ، ولكنّه عمى القلوب، أجارنا الله منه وما يتبعه من كروب، أتمنّى أن يدفعوا زكاة أموالهم، فهي نسبةٌ بسيطة أُقِرَّتْ عند إسلامهم! ولكنّه إسلامٌ في الهُويّة، ولم يكنْ يوماً في تصرّفاتٍ أو لنصرِ قضيّة. 

 

قائمتي تطول، ومن قال أنْ للتمنّي أُفول! فهل لنا بثورة؟ تنسفُ ظلّامنا ومنْ لهم سطوة، فربيعُنا استُغلّ، وثماره ضاعتْ ولم يبقَ لها مَحلّ، أتمنّى أن يعود زمنُ المُعجزات، وأن يُنزِلَ الله كمّاً من الصيحات! فقد جاروا على عبادك يا الله، فثمودٌ وعادٌ كالملائكة بجانبِ هؤلاء الطغاة، أفي أمنياتي مُبالغة؟ أمْ هو هذيانٌ تملّكَني؟ وأبحثُ فيه عن مُصالحة. 

 

أتمنّى صدقاً بين البشر، وأنْ لا يكونَ لسانُ حالِنا "بل هو كذّابٌ أشر"، وأنْ يكونَ صدقاً في القولِ والعمل، فالحالُ مزرٍ والأمرُ جلل، فالكذبُ صار اعتياديّاً، والصدقُ فينا صار شيئاً اعتباطيّاً، لا علاقةَ له في مُجريات الحياة، وتعظيمُ سلامٍ لمن كان من الدُهاة، عجيبٌ ما وصلنا إليه! والأعجبُ أنّنا نطمح إليه! فقد صارتْ التربيّة "سياسةً"، والصراطُ المستقيم قد أصبح "بلاهةً"، ما الحلُّ وما المخرج؟ وهل نحتاجُ مزيداً من التقصّي؟ لا، فلستُ بصددِ هذا، ودعوني أُكملُ مقالتي بالتمنّي.

أتمنّى أنْ يرضى الله عنّي، ويخطرُ لي ما قاله إمامُنا سفيان الثوري، فقد كان يدعي الله قائلاً: "ربِّ اغفر لي ذنبي"، ليعجبَ من حوله: "ومن أينَ لك ذنوباً وأنت التقيّ؟"، ليردَّ عليهم: "خلّوا عنّي"، فأنتم لا تعلمون سرّي وما بدرَ منّي.

 

أتمنّى أنْ أتركَ أثراً لا يقتصرُ على التنظيرِ، والسلامْ! فإنّني أذكرُ ما قاله مصطفى محمود: "إزاي حقابل ربنا بشويّة كلام!"، أتمنّى ثورةً فكريّة، نغيّرُ فيها أحوالنا الرديّة، فعلمائُنا صاروا مسخرةً ومُطيّة، يتحدّثون في الفقه ومُبطلات الوضوء، ونسوا كلامَ الحقِّ والتزموا الهدوء! ويردّدون أطعْ حاكمك وإنْ جلدَ ظهركْ، وإنْ امتنعتْ، فأنتَ تحفِرُ قبركْ! لا يا عالمَ السلطانْ، فأنا المتمرّدُ، وأنتَ الشاهدُ العيانْ! 

 

خاتمة كانتْ في خاطري منذُ أنْ بدأتْ، تختصرَ كلَّ ما فكّكتْ… لأقول ما قاله ميخائيل نعيمة: "غيرَ أنّي، وإنْ كرهتُ التمنّي، أتمنّى لو كنتُ لا أتمنّى"

تعبتُ من التمنّي، وأسألُ نفسي: هل نسيتُ شيئاً؟ أمْ هل أكثرتُ من التجنّي؟ فإنْ نسيتُ، فعليَّ بعصرِ العقل، وإنْ تجنّيتُ فهذا عاديٌّ، فلم أصلْ بعدُ إلى القتلْ! يقتلون، وببعضهم يُمثّلون، ومن بعدِ ذلك يُكبّرون! واللهِ لن تعلمْ إلى أينَ سيبرحون! 

 

أتمنّى في أنْ أستمرَّ في التمنّي! فمفاهيمُنا امتلأتْ بالعطبْ، ولا أدري إنْ كانَ ما قُلتُ هنا سيدورُ حوله الشغبْ، لأفقدَ حماستي وما فيها من سبب! أتمنّى وعقلي يتسائل؟ هل عليَّ بالنُهوض؟ أمْ سأُعدَّ ممنْ سقطَ أو ممنْ تثاقل! فغيري في المعاركِ وعلى أبوابِ الأقصى يشتبكْ، وأنا أتمنّى ومنْ وراء حاسوبي مُرتبك! ولكنّي أُحاول أنْ أكونَ على قدرْ، ولعلَّ في هذا التمنّي سأتركُ شيئاً من أثرْ.

 

وقدْ كنتُ أتمنّى تنويراً، يَمحي سائدنا المُؤلم الذي ملأَ دنيانا تحقيراً، "فهذا ما وجدنا عليه آباءنا" تُقال ولا نأبه لأفعالِنا! فقد أصبحنا أسياداً في التبعيّة، والطعنُ في العُرفِ جريمةٌ جليّة! ولا تُفكّرْ حتّى في نقده، فقدْ حاول منْ حاول قبلكْ، وعباراتٌ ومقالاتٌ نُظِمتْ، ومنْ ثمَّ نراها تهلِكْ! وهل للقصّةِ من بقيّة؟ فلعلَّ أمراً قد يحدثْ من خالقِ هذي البرية!

 

لا زلتُ أتمنّى خاتمةً وتعبيرٍ فصيح، لأبحثَ بعدها عن كتفٍ، واضعاً رأسي وأستريح! خاتمةٌ تشرحُ كلَّ ما قيل، وتُعطي معنىً عميقاً وجميل، وقدْ كانتْ في خاطري منذُ أنْ بدأتْ، لتختصرَ كلَّ ما فكّكتْ… لأقول ما قاله ميخائيل نعيمة: "غيرَ أنّي، وإنْ كرهتُ التمنّي، أتمنّى لو كنتُ لا أتمنّى".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.