الغربة والتباس المعنى بديوان "سراة الغابة"

غلاف ديوان "سراة الغابة" للعمانية بدرية الوهيبي
undefined
إبراهيم الحجري
 
يغلب على موضوعات ديوان "سراة الغابة.. معارج الحطابين" للعمانية بدرية الوهيبي الإحساس بالغربة والضيق من قيم إنسانية مادية، فضلا عن الحوارية العميقة التي يفتحها المنجز الشعري مع أغوار الذات المنهارة التي تتآكل من الداخل، ردا على واقع ومزيف يلتهم روح الإنسان.

ويبرز الديوان -وهو من إصدارات مجلة نزوى الفصلية في عددها الأخير- أهمية الكتابة الشعرية  لدى الشاعرة التي تطمح من خلال إعادة تصريف الهم الداخلي إلى كتابة واقع جديد يتمظهر عبر الخيال واللغة، فيوهم الذات بأن هناك واقعا أرقى من الواقع المعيش.

تومئ قصائد الديوان -ولو بشكل مرموز- إلى الواقع العربي في لحظته الراهنة، المشتعلة، حيث نار الحروب والصراعات تحرق كل شيء، والصراعات العرقية والمذهبية والسياسية

الوعي الشقي
تؤدي بنا القراءة المتأملة لهذا المتن الشعري إلى أزمة ذات ومعنى وسط مجتمع لا يرقى إلى تطلعاتها وطموحاتها، واقع يعتاش على الركود والفساد، ويظهر فيه الناس بألف وجه، وبلا أدنى مسؤولية تجاه الذات والعالم الذي يتفاعلون فيه.

وتومئ قصائد الديوان -ولو بشكل مرموز- إلى الواقع العربي في لحظته الراهنة المشتعلة، حيث نار الحروب والصراعات تحرق كل شيء، والصراعات العرقية والمذهبية والسياسية التي تأتي على الأخضر واليابس، إذ تقول الشاعرة "في هيئة النوم/ حواسك تكتظ باليقظة/ تستقطبك جلل الخطوب/ وأنت في أقاصي مرورك السقيم/ ميمما صوب سفرك الفادح"
(ص 32).

ويشكل الوعي الشقي للشاعرة بعمق اللحظة وانعطافاتها الجارفة، وما يليها من تشكل ملتبس على مستوى الهوية والذات جوهر تعاستها، إذ تودي بها قراءتها الصامتة لهذا الواقع الراكد إلى الشعور باليأس.

فالديوان -عبر تراكم مفرداته الشعرية وحقوله الدلالية- لا يبرز في العالم سوى وجهه السالب، وصوره القاتمة العدمية التي تحيل ذات الشاعرة إلى خواء وإحباط دائمين، ويبرز ذلك في قولها مثلا "سرت وحيدة نحو الفراغ، أبدية هذه الرحلة، ومزعجة" (ص 37).

وتضيف في موقع آخر "وقفت طويلا في قبو مندس بين الأموات، تتجمهر في يدك أغنية، تتحجر في دمك القبلات، ما أنت سوى (تابو) وثني، يتلبسه نسر ينقض على طريدته الموتى". وتتجلى كذلك في هذا الديوان وطأة الزمن بقوة، فيبدو بطيئا ودائريا يكرر ذاته، مجترا المأساة الإنسانية ذاتها.

غلبت على القصيدة إيقاعات مرتبكة، وخلطات متنوعة من المواضيع، لا يجمع بينها رابط منطقي أو لغوي، وكأن الذات تنفث سمومها المضطربة وفوضى حواسها المختلة التي لا تجد مبررا لوجوده

شعرية التشظي
تنتمي هاته المجموعة الشعرية إلى الخطاب الشعري الحديث القائم على النزعة الفردانية دون نسيان العلاقات والروابط التي تصل مادة المحكي الشعري بالمحيط الخارجي الذي يعتبر السبب المحفز ليس على الكتابة وحدها.

هذا المحيط هو الدافع إلى العزلة والقلق والنكوص، بفعل تمظهراته الرمزية والدلالية التي تتعارض بقوة مع طموحات الشاعرة ورغباتها في رؤية العالم جميلا يحفل بكل مظاهر الحياة الناعمة، البعيدة عن الصراعات والبشاعات المتلفة للقيم البشرية في أصالتها وعمقها، والمعوضة لها بقيم مزيفة لا تعكس جوهر الإنسان.

ولعل هذا التوجه الشعري سمة مميزة لشعرية الجيل الجديد الذي يستشعر فراغا قاتلا، وخواء روحيا، يجعلانه ينظر إلى الواقع نظرة مأساوية، فيعكس بالتالي هاته النظرة على اللغة والقصيدة والصورة الشعرية، وتكون الكتابة بذلك رد فعل تجاه هذا الوضع. وقد ظهرت هاته الرود الانفعالية النقدية في شتى التعبيرات بما فيها الشعر، ناهيك عن ألوان الموسيقى والرسم وغيرهما.

وقد غلبت على القصيدة إيقاعات مرتبكة، وخلطات متنوعة من المواضيع، لا يجمع بينها رابط منطقي أو لغوي، وكأن الذات تنفث سمومها المضطربة وفوضى حواسها المختلة التي لا تجد مبررا لوجودها.

كما أن الطبقات اللغوية والصور المستوحاة من المتخيل، تبنى بشكل مفارق يهاجم النموذج ويسخر من القيم، ويتمرد على الموروث، ويكسّر خطية الانسياب الشعوري، فترى القصيدة فوضى من الرنين والهتاف والأنين والضحك المشوب بالألم، والفراغات الملتوية والكلمات المبعثرة وصخب من الأصوات المتنافرة التي تشبه في أغلبيتها الداخل النفسي للشاعر.

القصيدة تصبح بالنسبة للشاعرة خلاصا فرديا، وسفرا روحانيا نحو الملكوت العامر الذي يسمو بالجوهر على السفاسف التي يركن إليها المجتمع

جدوى القصيدة
تصبح الكتابة الشعرية هنا نوعا من المقاومة للواقع المزري، ونوعا من التطهر من أدران الفساد الذي ينخر الجوهر الإنساني، ونوعا من كشف الأعماق والخبايا المطمورة حتى لا تتحول إلى بركان يغلي، ليدمر كل شيء في هذه الذات.

لنقل إن القصيدة تصبح بالنسبة للشاعرة خلاصا فرديا، وسفرا روحانيا نحو الملكوت العامر الذي يسمو بالجوهر على السفاسف التي يركن إليها المجتمع. ومع ذلك، ترد بعض المقولات الشعرية التي تطرح بإلحاح جدوى الكتابة، وتشكك في إمكانية تغييرها لواقع الحال، بمعنى أن الذات المفارقة تنازع ذاتها في جدال داخلي متناقض ويغلب عليه الصراع.

حتى أن مسألة هوية الذات وهوية الكتابة نفسيهما يهتزان في جسد القصيدة، تقول الشاعرة "لا شيء أكثر جرأة من قصيدة/ كأنثى/ تترمل/ تنسج فوقها العناكب/ وحين تهم بالانقضاض على فريستها/ تهرب" (ص 16).

وتضيف في السياق نفسه "لم نكتب غير فجيعة شعر غجري../ آمنت بالقصيدة/ أدمنت تلاوتها/ فرغت محبرة الشر من الياقوت/ وبدأت تتوقين لبحر/ بللك الشعراء/ بقافية عاجزة عن فعل الإرباك/ ما أقدم هذا الحرف!".

المصدر : الجزيرة