شعار قسم مدونات

الإنسان بين السحر والتفسير

blogs - human
لنتخيّل أنني أصبحت على درجة عالية من الوعي الذاتي، بحيث أصبحت كل أفكاري وشعوري وكلماتي، كل خطوة أخطوها في هذه الحياة مفهومة تماماً ومفسَّرة بالنسبة لي.

تقريباً سأكون أتعس إنسان في العالم، وربما أنتحر ولن يكون إقدامي على هذه الخطوة الأخيرة استثناءاً من الفهم والتفسير الوضوح القاتل، فأنا سأعرف تماماً لماذا أريد أن أضع حداً لهذا الوضوح، أريد أن أختفي في ظلام العدم والجهل هرباً من الوجود والمعرفة التي لا تُطاق. وسيكون من حسن حظي أنني من بني الموتى الفانين، ولستُ خالداً.

و من حسن حظي الآن، أنني لست محيطاً بذاتي على هذا النحو، الأمر الذي أتاح لي أن أجهل الدوافع الخفية وراء الكثير من الخطوات التي أخطوها، أن أجهل لماذا أفكِّر كما أفكِّر، أنفعل كما أنفعل، أختار ولا أختار، أفضِّل ولا أفضِّل.. أن لا أعرف الأسباب الخفية التي تدفعني لأن أكون ما أكون.

لماذا على الإنسان أن يخشى الانكشاف، ليس أمام الآخرين، وإنما أمام ذاته. لماذا لا يُواجه الإنسان حقيقته حتى لو كانت بشعة ولا تُطاق.

بكلمات أُخرى أن أشعر بأن هُناك سحراً ما في حياتي، شيء غير مفسَّر بالنسبة لي، حتى لو كان مفهوماً بالنسبة للخبراء النفسانيين، أو العُلماء الأكثر إحاطة بحقيقة الإنسان -إن كان هُناك خُبراء وعُلماء يستطيعون أن يفهموا الذات الإنسانية إلى هذا الحد، ويستطيعون مع ذلك أن لا ينتحروا- ما شأني بذلك، المهم أنني أشعر بأن هُناك أموراً سحريةً تحدُث، أمور غير مفهومة وغير واضحة بالنسبة لي على الأقل، هذا كل ما يهمني.

تصوّر لو أنك تملك تفسيراً موضوعيّاً واضحاً يفرض نفسه عليك بقوة الأفكار البديهية، لماذا أحب عائلتي، أبوَي وزوجتي وأخواني، ولماذا أحب أصدقائي. وكان لديك تصوُّراً واضحاً وضوح الشمس لماهية الحُب نفسه، أي أن يكون مفهوم الحب شيئاً ليس في متناول العقل وحسب، وإنما يفرض نفسه فرضاً على العقل، وأكثر من ذلك يُمكن تفسيره عندما يتعلَّق بالآخرين، تفسيراً واضحاً: لماذا تحب حبيبتك أو زوجتك؟ أحبها للأسباب الآتية: أولاً لأن ماهية الحُب هي..، ولأنني..، ولأنها هي..، وبالتالي كان يجب أن يحدث..

لماذا تحب وجبتك المفضلة، مشروبك، عطرك، نوع الفن الذي تتذوقه.. أو أنك تملك وعياً تاماً بدوافع وأسباب صداقاتك كلها، أو تعرف تماماً ما هي الصداقة، لماذا تنشأ، وكيف تنشأ، ولماذا أنت منخرط فيها (سوف نتجاهل هُنا وعي الآخرين ودوافعهم) باختصار تصوَّر أنك أصبحت موضوعيّاً في منتهى الموضوعية، وأن ذاتك أصبحت موضوعاً ليس بالنسبة للإله، وإنما بالنسبة لك أنت.

لماذا اعتبر "سارتر" مجرد وجود الإله -التوراتي على وجه الخصوص-، مدمِّراً لذاتية الإنسان؟ لأن الإنسان سيكون موضوعاً بالنسبة لهذا الإله الذي يضع الإنسان تحت المراقبة المستمرة.

في مقال سابق هُنا بعنوان "الحرية والذاتية.. البُعد الغيبي للإنسان" تطرقت لموقف سارتر بتفصيل وناقشته، ويُمكن الرجوع إليه.

"الآخر هو الجحيم" مقولة أُخرى شهيرة لساتر، تنطبق هُنا على الإنسان مع ذاته، لأنه سيكون هو الذات وهو الآخر الذي يراقب كل شيء، رغم أنفه ورغم أنف الذات.

هذه المشكلة الافتراضية والتي لحسن الحظ ليست هي الواقع. إنها شبيهة بمُشكلة الجبر والحتمية، ولكنها ليست هي ذاتها، فهُنا يُمكن افتراض الانسان يمتلك حرية الاختيار ولو على سبيل الوهم، ولكنه مكشوف وعاري تماماً أمام ذاته. هل يجب أن نشكر الله لأنه أخفى عنّا الدافع الخفية واللا-واعية لسلوكنا؟ سنرى.

ولكن لماذا على الإنسان أن يخشى الانكشاف، ليس أمام الآخرين، وإنما أمام ذاته. لماذا لا يُواجه الإنسان حقيقته حتى لو كانت بشعة ولا تُطاق، قد يتساءل البعض. ولكن القضية هُنا ليست البشاعة بقدر ما في الوضوح وانتفاء السحر، الإنسان هُنا سيكون عبارة عن آلة.

بيولوجيّاً يتقبّل البشر على نطاق واسع فكرة التطوُّر، وانحدار الانسان من أسلاف مشتركين مع القردة، ونفسيّاً هُناك -بوعي أو بغير وعي!- تقبُّل واسع لفكرة أن هُناك لا وعي يؤثر في سلوك الإنسان. هذا اللاوعي يتشكّل من خلال عوامل وظروف خارجة عن سيطرة الإنسان بالطبع، وفلسفياً هُناك شكوك ونقاشات طويلة وعريضة حول الحُرية والإرادة، وحول الوعي نفسه، نقاشات حول الفكر والثقافة واللُّغة أو باختصار أثر البيئة والمُحيط، إن لم نقُل في صياغة مصير وقدر الإنسان، ففي تحديد الشروط الموضوعية لوجوده.

أضف الى كل هذا التاريخ والواقع والحاضر، تاريخ الإنسان المليء بالعار والخجل كما يقول "نيتشة". يتقبّل البشر، ليس كلّهم بالطبع، ولكن الكثير منهم، الكثير أو بعض هذه التصوُّرات و"الحقائق" عن الإنسان. هل نضيف اليها بعض "الحقائق الدينية"؟ مثل الإنسان الهلوع، الجزوع، الكفور، الظلوم، الجهول، أو الإنسان المولود بالخطيئة كما في المسيحية، والذي عليه أن يبحث دائماً عن الخلاص، فوضعه الأصلي أنه في خسر وضلال وخطيئة، إلا أن يؤمن وينشد الخلاص في الدين والإيمان والعبادة.

ثمّة من يعتقد أن الإنسان أصلاً انفصل عن إخوته في الطبيعة في اللحظة التي بدأ يمارس فيها طقوساً دينية، وهٌنا يبدو الدين وكأنه يؤكد هذا الانفصال باستمرار، وهكذا يقول على عزت بيجوفيتش.

ولكني كلما تذكرت طقوس القرابين البشرية التي كان يقدمها البشر للآلهة، وكلما رأيت الآن كيف يتقرب البعض منهم، وعلى الرغم من كل هذا التاريخ الطويل من الحضارة، إلى الإله من خلال القتل وسفك الدماء، أشعر بالريبة الشديدة تجاه ذلك البُعد الروحي في الإنسان الذي يُعتقد أنه هو الذي جعله يمتاز على أسلافه الأوائل وأبناء عمومته وفقاً لنظرية التطور، أو جعله يمتاز على المخلوقات الأُخرى وفقاً للرؤية الدينية. فهل كان حقاً أُولئك الذين يقدمون القرابين البشرية قديماً والآن يمارسون طقساً روحيّاً؟

أيّاً كان ما نعتقد أنه حقيقة الإنسان الموضوعية، فإن هذه "الحقيقة" تظل جزءاً مما يُمكن أن يكونه أو يبدو عليه الإنسان.

ولكن ماذا يكون الإنسان إذا لم يكُن يملك روحاً، بل نفخةً إلهيةً وسراً مقدساً لا يُمكن الوصول إلى كنهه على الإطلاق؟ سيكون شيئاً ما، شيئاً بلا سحر. شيئاً قد يواجه ذاته بوضوح قاتل في يوم من الأيام، مثلي تماماً عندما تخيلت ذلك في البداية. وإذا كان لم يواجهَّا بعد، ولم يشرع بكامل وعيه ويقظته في الانتحار، فذلك لأنه فقط يجهلها، ولكن ليس لأنها هي أيضاً مثل الله، لا يُمكن الإحاطة بها. هكذا سيكون الإنسان المفتقر إلى السحر في ذاته.

هذه هي الإمكانية الوحيدة التي تعطى لفكرنا ولشعورنا وإرادتنا معنى.. الطريقة الوحيدة للإفلات من الهيمنة الواعية واللا-واعية للقوى العمياء التي تتحكم في الإنسان الذي لا ينطوي على ما هو سحري مفارق ومتعالي وغير قابل للفهم ولا للتفسير، شيء غير قابل للإخضاع للموضوعية وأسئلة "لماذا" و"كيف".

هذه هي الإمكانية الوحيدة للإرادة وللأخلاق وللعقل والحب والصداقة ولكل شيء. بل هي الإمكانية الوحيدة لمعنى الدين نفسه.

أيّاً كان ما نعتقد أنه حقيقة الإنسان الموضوعية، فإن هذه "الحقيقة" تظل جزءاً مما يُمكن أن يكونه أو يبدو عليه الإنسان، أي أنها مجرد ممكن من الممكنات وليست الحكم النهائي بشأنه، ببساطة لأن الإنسان هو التاريخ، والتاريخ لم يتوقف بعد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.