شعار قسم مدونات

في ذكرى حريق الأقصى.. معادلة الردع في القدس

blogs-qasa

كنت قد نشرت أغلب مادة هذا المقال في مقال مشابه سابقاً في عام 2013، ولكني لم أكن أتخيل أن الظروف التي يمر بها المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس في عام 2016 ستكون أدعى وأولى لنشر هذه المادة مما كان الوضع عليه قبل ثلاث سنوات.

لذلك رأيت أن أعيد نشر ما سبق نشره هذا العام حول هذا الموضوع خاصة في ظل ذكرى إحراق المسجد الأقصى المبارك، حيث لا يستطيع أحد أن يتجاهل ما يحدث اليوم في المسجد الأقصى المبارك من هجمة صهيونية غير مسبوقة على المسجد وساحاته بهدف تحقيق فكرة التقسيم الزماني بالقوة، في مقدمةٍ للانتقال إلى مرحلة التقسيم المكاني التي تكلمت عنها مجموعة من الهيئات الصهيونية في رسالتها للحكومة الصهيونية قبل ثلاث سنوات وأعادت التأكيد عليه غير مرة منذ ذلك الوقت.
 

تجرأ المستوطنون على المطالبة بالصلاة العلنية داخل المسجد الأقصى المبارك، وهذا يعني أن المشروع الصهيوني قد حصل على الضوء الأخضر من قبل قوى دولية كثيرة للتصعيد وحسم الصراع في المسجد

في عام 2013 حدث في الأقصى أمر خطير لم يحدث على مر سنوات الصراع المرير في فلسطين، حين تم تفريغ المسجد الأقصى المبارك تماماً من المسلمين ساعةً كاملةً لصالح صلاة المستوطنين اليهود بشكل مفضوح.
 

وفي هذا العام تجرأ المستوطنون على المطالبة بالصلاة العلنية داخل المسجد الأقصى المبارك، وتجرؤوا لأول مرة على إدخال أكثر من مجموعة واحدة في نفس اللحظة داخل المسجد خلال ما يسمى (تشيع بآب) الذي يشير في التقويم العبري إلى ما يسمى ذكرى "تخريب المعبد"، وهذا يعني أن المشروع الصهيوني في المسجد الأقصى المبارك قد حصل على الضوء الأخضر من قبل قوى دولية كثيرة للتصعيد وحسم الصراع في المسجد.
 

ولنكن أكثر صراحةً، فالصمت العربي المطبق على ما يجري في القدس لا يمكن تفسيره بأقل من موافقة ضمنية على فرض حل التقسيم داخل المسجد الأقصى المبارك حسب الرؤية الصهيونية، فلولا وجود موافقةٍ ضمنية من بعض القوى الدولية والعربية على تطبيق هذا "الحل" الصهيوني للقضية في القدس لما تمكنت المؤسسة الاحتلالية من التمادي في أفعالها داخل المسجد إلى الحد الذي تتجرأ فيه على منع حراس المسجد الأقصى المبارك أنفسهم من المشي داخل المسجد خلال اقتحام الجماعات اليهودية المتطرفة المكان بحراسة الشرطة الصهيونية، ثم منع عدد من الحراس – بعد اعتقالهم – من دخول المسجد الأقصى ومزاولة عملهم فيه.
 

لا يمكننا هنا أن ننسى وثائق الجزيرة التي فضحت هذه الموافقة التي قدمها المفاوضون الفلسطينيون في وقتٍ سابق. وإن كان هذا التحليل غير دقيق، فلتتفضل دول الجامعة العربية وتتخذ موقفاً قوياً (مع خطين تحت كلمة "قوي") إزاء ما يحدث في المسجد الأقصى المبارك اليوم.
 

كنا قد طالبنا قبل ذلك بأقل الواجب في هذه الظروف، وذلك بالتهديد، نعم مجرد التهديد، بإلغاء الاتفاقيات والمعاهدات التي عقدتها بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني أو حتى التهديد بمراجعتها. ولكن الجميع بقي على صمته ولم يتخذ أي إجراء، مما أرسل رسالةً للمؤسسة الصهيونية بأن الضوء الأخضر قد أعطي لها لحسم هذه القضية وتصفيتها نحو التقسيم، دون أن تأخذ هذه القوى والدول عبرةً أو درساً مما حدث في المسجد الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل، الذي تحول بسبب نفس سياسة اللامبالاة من مسجدٍ إسلامي كان يُسمَح لليهود بالصلاة فيه بعد الاحتلال عام 1967، إلى كنيسٍ يهودي يُسمَح للمسلمين بالصلاة فيه بعد الإعلان الصهيوني الشهير عام 2009 بإعلانه جزءاً من "التراث اليهودي".. هكذا ببساطة.
 

الضفة الغربية ترزح تحت احتلالين بكل معنى الكلمة، احتلال الدولة الصهيونية، واحتلال المتعاونين مع الاحتلال

في ظل هذه الظروف، فإن الأمل بتغيير هذه المعادلة وقلبِ الطاولة ليس معولاً على هذه الحكومات والقوى الرسمية العربية والدولية، بل أصبح فعلياً معلقاً بقدرة المقاومة الشعبية الفلسطينية على ردع المشروع الصهيوني في الأقصى المبارك، حيث ثبت بالوجه القاطع أن هذه الممارسات الصهيونية لا تردعها إلا القوة.
 

الضفة الغربية ترزح تحت احتلالين بكل معنى الكلمة، احتلال الدولة الصهيونية، واحتلال المتعاونين مع الاحتلال، ولابد للضفة أن تخرج من هذا القمقم لتطلق انتفاضتها في وجه الاحتلالين.
 

أما غزة، فبالرغم مما تعانيه اليوم من ضغط هائل كبير من قبل دولة الاحتلال أو دولة الجوار إلا أن عليها أن لا تفقد معادلة الردع مع الاحتلال، وما يحدث اليوم في القدس يمثل فرصة ذهبية لدفع الأمور إلى الأمام بدلاً من التقوقع ومحاولة التعامل مع الواقع الراهن والحصار الظالم المفروض على غزة، مما سيكون له أكبر الأثر بعد ذلك في إنهاء الحصار على غزة بعد إظهارها قوة الردع المتعلقة بالقدس.
 

أما أهلنا في القدس، فإن دورهم في هذه المرحلة هو الصمود -والصمود فقط -في وجه هذه القوة الاحتلالية الكبيرة، فهذه الأيام وما يليها صعبة جداً لا شك، ولابد أن انشغال المحيط العربي بما يجري في سورية واليمن ومصر والعراق وغيرها أثَّر كثيراً على معنويات المقدسيين، إلا أن عليهم أن لا ينسوا أبداً أن كل ما يجري في المحيط العربي منبعه ومآله في النهاية إلى القدس.
 

قَدَرُ المقدسيين أن يكونوا خط الدفاع الأول عن هذه المدينة وهذا المسجد، وبالتالي فإن عليهم أن يكونوا على قدر مسؤولية المرحلة، وذلك باعتبار الاحتلال احتلالاً لا دولة، فالمقدسيون ليسوا مواطنين في دولة الاحتلال حتى يتعاملوا معها كتعامل المواطنين مع دولتهم، وهي لا تعتبرهم مواطنين أصلاً، بل هم مقيمون، وبالتالي فإن عليهم إيقاف أي إجراء من شأنه أن يُفهَمَ منه موافقةٌ أو اعترافٌ بسلطة الاحتلال على المدينة والمسجد، وذلك بعدم التعامل مع الاحتلال في أي شيء.
 

التاريخ علمنا أن العصيان المدني ممكن، وهو ما قام به المقدسيون إبان الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني

ولنا أن نتخيل كيف سيكون وضع دولة الاحتلال في القدس لو أن جميع سكان القدس (أو أغلبهم على الأقل) امتنعوا عن الامتثال لأوامر الاحتلال بالمنع من دخول المسجد الأقصى المبارك لمئات الممنوعين منه، وامتنعوا بمجموعهم عن دفع الضرائب للاحتلال وعلى رأسها ضريبة الأرنونا وضرائب المؤسسات الصهيونية المختلفة، ولم يقبلوا استلام الهويات الإسرائيلية الممغنطة.
 

قد يقول قائل إن هذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً، لكن التاريخ علمنا في القدس نفسها أن العصيان المدني ممكن، فهو ما قام به المقدسيون إبان الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني، وهو ما يمكن تطبيقه لأن المقدسيين ليسوا أقلية مغلوبة على أمرها، بل هم الأكثرية في القسم الشرقي من القدس. وأهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948 عليهم دور كبير في إسناد صمود المقدسيين وتكثيف الوجود الإسلامي في المسجد الأقصى المبارك لأنهم يشكلون ما نسبته عشرون بالمائة من سكان الدولة العبرية، وهذه نسبة لا يستهان بها، وتشبه قنبلةً موقوتةً في قلب دولة الاحتلال تحسب لها الحكومة الصهيونية ألف حساب.
 

إن العصيان المدني الشامل في القدس سيؤدي حتماً إلى اشتداد الأزمة وربما إلى اشتداد شوكة انتفاضة القدس التي انطلقت في القدس في أكتوبر من عام 2015، وهذا هو السبيل الأقوى اليوم لإيقاف الاحتلال عند الخطوط الحمراء المتعلقة بالمقدسات في فلسطين بل إلى تراجعه إلى أبعد من ذلك وإسقاط مشروعه التوسعي ونقله إلى مرحلة الانكفاء.

الأمل اليوم معلق بالمقاومة الشعبية بكافة أشكالها داخل فلسطين، ولا يمكن ردع الاحتلال وتأخير مشروعه في الوقت الراهن إلا بذلك، وهو ما أثبته التاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.