شعار قسم مدونات

مقاربات الديمقراطية وحالة الاستثناء في تركيا ومصر

أردوغان والسيسي

أثار الانقلاب العسكري الأخير في تركيا والإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية الشرعية بقيادة رجب طيب أردوغان لمواجته وحماية الدولة ردود أفعال مستنكرة وغاضبة من جانب الكثيرين خارج تركيا ممن بدا أن فشل الانقلاب قد سائهم وأفسد فرحتهم الأولى بالسقوط الذي بدا وشيكًا لحكومة العدالة والتنمية.

وفي مصر ساد مزاج ليبرالي حقوقي "لا سياسي" في التعليق على هذه المسألة غيّب تمامًا إمكانية نقاش عقلاني لهذه الإجراءات، لكنه -في نفس الوقت- أثار شجونًا عديدة حيث ذكّرنا بالمزاج الليبرالي الرومانسي الذي كان سائدًا ضد حكومة محمد مرسي وبعض إجراءاتها الاستثنائية، وهي الإجراءات التي تم التراجع عنها سريعًا فيما بعد استجابة لضغوط ذلك المزاج على كل حال.
ورغم تحفظ كاتب هذه السطور على المقارنات العامة بين الحالتين المصرية والتركية لأسباب عديدة لا يسمح قِصَر المساحة هنا بالخوض فيها إلا إنه يود استغلال هذه الفرصة لتأطير هذا النقاش نظريًا ونقد أو نقض ذلك المزاج الرومانسي الذي كان أحد أسباب هزيمة الثورة في مصر بما يسمح بتوسيعه، أي النقاش، وتخليته -قدر الإمكان- من خلفياته الأيديولوجية التي تفرض عليه مواقف مسبقة لا تسمن ولا تغني من جوع.

أولاً: الديمقراطية تفترض وجود دولة أساسًا، إذ يمكن أن توجد دولة لا ديمقراطية، لكن لا يمكن أن توجد ديمقراطية بلا دولة ( إلا في التصورات الأناركية وهي تصورات نظرية طوباوية على أية حال رغم أهميتها في الكشف عن أسس الاجتماع السياسي الحديث).

أظهر أردوغان حرصًا على وجود دور للبرلمان في تقنين إجراءات مواجهة الانقلاب، كتقنين إعادة أحكام الإعدام وخلافه.

ثانيًا: إن الدولة في التصور الحديث -باختصار مخل- هي كيان يضم أرضًا ذات حدود معينة يعيش عليها "شعب" وتحكمها سلطة محتكرة للعنف وتنفيذ القانون، وإن أي انتقاص أو غياب لأحد هذه المكونات ينتقص من شرعيتها كدولة معترف بها لها حق ممارسة السيادة، وبالتالي يجعل الحديث عن "ديمقراطية" نظامها السياسي من عدمها محل تساؤل نظري واحتجاج عملي؛ إذ يقتضي العرف القانوني والسياسي اكتمال شروط تكونها كدولة أولاً قبل استكمال شروط ديمقراطية نظامها السياسي من عدمه، فلا ديمقراطية بلا سيادة.

وفي الحالة التركية الحالية خلق الجيش تمردًا أعلن من خلاله الأحكام العرفية وتعليق حكم القانون ومازالت الدولة التركية حتى هذه اللحظة لا تمارس سيادة كاملة على عاصمتها أنقرة حيث يقصف المتمردون مواقع الحكومة والمواطنين المدنيين المشمولين بحمايتها في تأكيد واضح على انتقاص سيادة الدولة التركية على جيشها وأرضها.

ثالثًا: تقودنا النقطة السابقة إلى المناقشة التي أثارها جورجو أغامبين في الفصل الأول من كتابه الأشهر؛ حالة الاستثناء حيث درس أغامبين الجذور التاريخية الحديثة للتنظير القانوني لحالة الاستثناء في النظم القانونية الغربية بداية من القوانين التي أخرجتها السلطات "الثورية/الديمقراطية" الفرنسية عقب الثورة في 1789 امتدادًا لتطبيقاتها في النظم القانونية الألمانية والإيطالية والإنجليزية والسويسرية والأمريكية.

وخلص أغامبين في نهاية الفصل إلى أن التوسع في تشريع "حالة الاستثناء"؛ أي منح السلطة التنفيذية حق تجاوز السلطة التشريعية "البرلمان" وتشريع مراسيم لها قوة القانون استجابة لحالات الطوارئ الملحة كالكوارث الطبيعية والحروب الأهلية والتمردات المسلحة؛ خلص أغامبين إلى أن هذا النزوع قد أصبح نموذج الحكم السائد في الديمقراطيات الليبرالية الغربية مع بزوغ العصر الذري في منتصف القرن العشرين، وازداد بروزًا مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ والحرب الغربية على ما يسمى "الإرهاب".

رابعًا: ورغم أن المقارنة بين الديمقراطيات الغربية العريقة وبين الديمقراطية التركية الوليدة ربما تبدو مقارنة مجحفة حيث مازالت الديمقراطية التركية تعاني من شبح الانقلابات العسكرية ومازال للجيش التركي وضع دستوري في السياسة التركية الداخلية إلا أن المراقب المدقق يلحظ ببساطة أن الرئيس التركي لم يعلن فرض "حالة الاستثناء" في مواجهة الانقلاب العسكري، واكتفى بمواجهته بالقوة المادية الموالية له وبالدعم الشعبي الكبير الذي حصل عليه فور ظهوره بعد إعلان الانقلاب ما أكسبه شرعية مباشرة، وأضعف بشدة موقف الانقلابيين في المقابل. بالإضافة إلى ذلك أظهر أردوغان حرصًا على وجود دور للبرلمان في تقنين إجراءات مواجهة الانقلاب، كتقنين إعادة أحكام الإعدام وخلافه.

خامسًا: يقودنا هذا إلى النظر في مسألة السيادة الحديثة وجوهرها الذي هو القوة بلا منازع. إن جوهر الحكم هو القوة فالحكم ليس مجرد اقتراح إجراءات عامة أو إصدار أحكام قضائية بل اضطلاع بتلك الإجراءات وقدرة على تنفيذ تلك الأحكام. ولذلك ينبغي هنا أن نؤكد على أن الإجراءات الديمقراطية لا تكتسب شرعيتها من داخلها كما يظن الرومانسيون الليبراليون، بل من أساس من السلطة خارجها وفوقها وتحتها يمنحها شرعية الوجود على أرض الواقع. هذا الأساس نسميه الدولة. وما يحدث في "حالة الاستثناء" تحديدًا هو تعليق حكم القانون حفاظًا عليه، وهذا هو معنى أساس السلطة الذي ذكرناه آنفًا.

إن جوهر حالة الاستثناء هو نقل سلطة التشريع من "الشعب" ممثلاً في برلمانه المنتخب الذي هو مصدر الشرعية حسب التصور الليبرالي إلى السلطة التنفيذية التابعة حسب نفس التصور. وهذا النقل، الذي هو تعليق عملي للقانون، يهدف أساسًا للحفاظ على سلطة التشريع للشعب بتعليقها استجابة لظرف طارئ. لذلك تفننت النظم القانونية الغربية في تقييد هذه المساحة المهجورة من القانون وتأقيتها حفاظًا على الديمقراطية.

الخلافات السياسية والأيديولوجية العميقة أدى إلى إفشال محاولات السلطة المنتخبة في مصر إقرار بعض الإجراءات الاستثنائية لتحصين مكاسب الثورة

سادسًا: يعود بنا هذا النقاش النظري إلى أرض الواقع في مصر حيث أدى ذلك النزوع الرومانسي الليبرالي الحقوقي والمزاودات والخلافات السياسية والأيديولوجية العميقة إلى إفشال محاولات السلطة المنتخبة اقرار بعض الإجراءات الاستثنائية التي كان من شأنها تحصين مكاسب الثورة. ورغم اقرار كاتب هذه السطور بعقلانية بعض أسباب التخوف من تلك الإجراءات الاستثنائية إلا أن رد فعل المعارضة المصرية افتقر إلى ذكاء المنظرين القانونيين الغربيين الذين أقروا بضرورة وجود إمكانية لتعليق القانون من داخله- حفاظًا عليه- مع تقييد تلك الإمكانية وتأقيتها حفاظًا على الديمقراطية.

فلم تفرّق المعارضة الرومانسية بين شرعية الإجراءات الاستثنائية التي تحافظ على مكتسبات الثورة وتُفقد النظام القديم شيئًا من السلطة، وبين استغلال السلطة لتلك الإجراءات في فرض خياراتها الأخرى، ولم يكن لديها أي تصور أو برنامج عمل لدعم الجانب الأول منها ورفض الجانب الأخر منها فرفضتها جميعًا وفقدتها جميعًا.

سابعًا: أخيرًا إن النقد الذي لابد أن يوجه للإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية الشرعية لمواجهة الانقلاب العسكري ينبغي ألا يقع في نفس هذا التناقض الذي وقعت فيه المعارضة المصرية بين المطالبة بتطهير جهاز الدولة من فلول النظام القديم، بل ينبغي له أن يقر بوجود هذه المساحة من تعليق القانون -خصوصًا مع ضيق المساحة التي استخدمته فيه الحكومة التركية حتى الآن- وأن يركز أكثر على آثر هذه الإجراءات على تماسك الدولة والمجتمع التركيين وتوازن مراكز القوى فيهما إما بالزيادة أو النقصان (مع ملاحظة أن أكثر هذا النقد حتى الآن -عقب الانقلاب بخمسة أيام- وُجِّه من خصوم النظام التركي بينما لا يزال الداخل التركي على تنوعه محافظًا على تأييده لتلك الإجراءات).

هذا هو أساس الديمقراطية، وحالة الاستثناء هنا هي صنو الديمقراطية وتؤدي دورًا عظيمًا في الحفاظ عليها لا نقضها. أما النقد من منطلقات ليبرالية حقوقية إنسانوية فهو في الحقيقة أشد أنواع تلك النقد أدلجة وتبعية للنقد الغربي الأعمى الذي ظهر أنه حزن بشدة من فشل الانقلاب العسكري على الحكومة التركية الشرعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.