شعار قسم مدونات

التدوين لا يزال حيا.. لعله يحتضر؟

التدوين
يتهم التلفزيون بالسطحية، ومهما حاولنا دفع التهمة، سواء بالتحليل العميق أو الوثائقي المطوّل والحوارات المفتوحة، يرجح وزن الحرف المكتوب، تماما كما يرجح وزن الصورة في الانتشار والتأثير؛ فالصحيفة لم تكن بديلا للكتاب ولا التلفزيون ألغى السينما.

وقد كان الإنترنت في بدايته منحازا للحرف، وكان ينوء بحمل الصور سواء في البريد أو التدوين، وأسهم ذلك في انتشار ظاهرة المدونات التي كان لها أثر كبير في زيادة الوعي، خاصة لدى شريحة الشباب.

أليس من حق عازف أن يجد خلوة يطرب فيها مع نفسه أو مع من يحب أن يسمعه؟

غير أن التطور التقني انحاز في النهاية للصورة، وصارت صناعة الفيديو تصويرا وتحريرا وبثا متاحة للعامة. وفي نظر من يعدّون التلفزيون سطحيا، زادت سطحيته بانتقال صناعته من المتخصصين إلى الهواة وعامة الناس، فمن كان يتثاقل من كتابة 140 حرفا على تويتر صار يصور ويثرثر على سناب شات في أي موضوع.

لا يحق للعاملين في الإعلام أن يتعالوا على الناس، من حقهم أن يثرثروا وأن يصوروا وأن يفعلوا ما يشاؤون. لكن أليس من حق عازف أن يجد خلوة يطرب فيها مع نفسه أو مع من يحب أن يسمعه؟ في زحام الإنترنت وضجيجه غدا صعبا إيجاد هذه المساحة، إنك لا تسمع نفسك ولا تجد من يسمعك.

لعل أفضل من شخّص أزمة التدوين حسين درخشان المدون الإيراني الذي حكم عليه بالسجن عشرين عاما قضى منها ست سنوات، وكتب مقاله الشهير عن موت التدوين بعد خروجه: "الشبكة الغنيّة، المتنوّعة، المجّانية التي أحببتها، وأمضيت السنين في السجن الإيراني من أجلها، تموت الآن، لماذا لا يوجد من يوقف ذلك؟" أقول إننا في مدونات الجزيرة نحاول أن نفعلها، ونعتقد بأننا سننجح في ذلك.

يقدم في مقاله -الذي نقله إلى العربية عمر فارس- نقدا عميقا لمنصات التواصل الاجتماعي "في العديد من التطبيقات، عملية التصويت التي نغدق بها على الآخرين -الإعجابات، قلوب الحب، النجوم- هي في الحقيقة متعلقة بالصور الجميلة ومنشورات المشاهير أكثر من محتوى ما يُنشَر. من الممكن أن تُترَك مقالة ممتازة من قِبل شخص عاديّ المظهر خارج "الستريم"، بينما سخافات المشاهير تتلقى حضورًا مهمًّا في الإنترنت".

منذ أن تحصلتُ على حريتي، أينما ذهبتُ أرى "الستريم"

وبشكل ذكي، يرصد هيمنة الذكاء الآلي واللوغاريتمات على ذهن المتابع، "الستريم" اليوم هو الشكل الرئيسي لطريقة وسائل الإعلام الرقمية في تنظيم المعلومات، إنه في كل شبكات التواصل وتطبيقات الهواتف، منذ أن تحصلتُ على حريتي، أينما ذهبتُ أرى "الستريم".

أظن أن المدة لن تطول حتى نرى المواقع الإخبارية ترتّب كل محتوياتها حسب المبادئ نفسها. إن تأثير "الستريم" لا يكمن فقط بجعل أجزاء كبيرة من الإنترنت متحيزة ضد جودة المحتوى، بل إنها تعني خيانة عميقة للتنوّع الذي تصوَّرته الشبكة العالمية لنفسها بالأساس.

ربما، النص نفسه يختفي. أول روّاد الشبكة كانوا يقضون وقتهم بتصفّح المجلات على "أونلاين"، بعدها جاءت المدوّنات، ثم فيسبوك، وتويتر في النهاية. أما الآن، معظم الناس يقضون وقتهم في مشاهدة فيديوهات فيسبوك وإنستغرام وسناب شات.

إذن، نحن نحاول إبقاء النص حيا، ليس لأجل زيادة عدد المشاهدين في القناة، وهو هدف أي قناة، بقدر ما هي محاولة للارتقاء بالشاشة مع قلة قليلة معنية بألا تتوقف عند مشاهدة الصورة، ولا تكتفي بتعليق عابر، بل تبذل جهدا أكبر في محاولة فهم ما يجري.

زيادة المشاهدين وزيادة الأرباح وزيادة الإعلانات أهداف مشروعة للمؤسسات، لكن التركيز على الربح وحده قد يكون كارثة، وهذا ما حصل مع شركة ياهو، لقد تخلت عن التدوين مرتين لأنه لا يدر أرباحا، مرة مع موقع تمبلر ومرة أخرى مع موقع مكتوب.

لا أنسى يوم طلب مني الصديق سميح طوقان، مؤسس مكتوب، الذي كان أكبر مجتمع عربي على الإنترنت، أن أكون أول مدون على الموقع، يومها عنونت مدونتي "ما وراء الشاشة"، فقد كنت أرى أن لدي الكثير لأقوله ولا تتسع له الشاشة.

أدعو المدونين إلى مدونات الجزيرة؛ فضاء من فضاءات الجزيرة يتيح لهم فرصة الحديث لأنفسهم وللآخرين

أذكر عندما غطيت مجزرة قانا، وكنت أول صحفي يصل إليها، كتبت في مدونتي ما لم تدركه الصورة، ولم أعرف تأثير تقريري على المشاهد. يومها علقت المدونة السعودية الراحلة هديل الحضيف على مدونتي منتقدة بث الصور القاسية على الأطفال، من التعليق دخلت على مدونتها "باب الجنة" لأتعرف على واحدة من أفضل المدونات عالميا، لكن رحلتها مع الحياة كانت قصيرة وتوفيت عن 25 عاما وبقي هديلها إلى اليوم.
 

اشترت ياهو موقع مكتوب وألغت المدونات، لأنها لا تدر أرباحا، وخسرنا فضاء رحبا. لم تعوض منصات التواصل ذلك الفضاء، عندما تقرأ التعليقات في فيسبوك وتويتر يفجعك حجم الاستقطاب والبذاءة من التيارات كافة، وهذا لم يكن في عالم التدوين.

أعود للتدوين، وأدعو المدونين إلى مدونات الجزيرة؛ فضاء من فضاءات الجزيرة يتيح لهم فرصة الحديث لأنفسهم وللآخرين، وبما للجزيرة من انتشار وحضور سنعمل، ليس وفق الذكاء الآلي، بل بناء على تقدير المحررين لأهمية المادة على دعم نشرها وترويجها. والجيل الشاب -خاصة من هم تحت العشرين- سيكون له تمييز تفضيلي.

ما يشهده العالم العربي من استقطاب حاد، ينفجر حروبا أهلية قائمة أو قادمة، لا يعالج بقرارات يصدرها حسنو النية، بل بمقاومة باسلة. هنا نقاوم الاستقطاب من خلال التنوع الحقيقي والاعتراف المتبادل والاحترام العام. لن نحشر الشباب العربي في تقسيمات سياسية وجغرافية وطائفية وأقوامية (إثنية)… وغيرها. من حق كل شاب أن يكون كما هو بعيدا عن التصنيف.

تصل نسبة الشباب العربي العاطل عن العمل إلى ما يعادل سكان فرنسا واليونان معا، هذا الشباب من حقه علينا أن نسمعه، ونوصل صوته. ومقابل هؤلاء العاطلين عن العمل ثمة ناجحون ورواد أعمال ومسيسون ومثقفون… وفي عالم التدوين متسع لهم.

نأمل أن نسهم في إحياء التدوين، وليعود فتيا كما بدأ.

بقي أن أشكر من أنجز المشروع، سواء من الفريق الرقمي داخل القناة، والقطاعات التي تعاونت معه من شبكة الجزيرة كافة، سواء في الإبداع والتسويق والمالية والإدارة.

وأخص بالذكر مسؤول المشروع أنس حسن وعمر الحكواتي اللذين توليا الجانب الفني وفكرة التصميم للموقع.

وعبد الله الرشيد في ملف التواصل والعلاقات العامة، وسامي القطامي الذي تابع الجوانب البرمجية لحظة بلحظة حتى في أيام إجازته، ولؤي مصطفى وما حققته خطة "السوشيال ميديا" والتسويق على مواقع التواصل من نجاح.

والمؤكد أن معهم جنودا مجهولين فاتني ذكرهم، غير أن النجاح هو المكافأة الحقيقية لكل من أسهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.