شعار قسم مدونات

بورما.. كيف تتكون الفكرة؟

blogs - المجتمع البوذي
تعرّضنا في المقال السّابق لـلمسألة البورميّة؛ تجلّياتها الأولى مع بوذا، تاريخها والسّبب الرئيسي لردّة الفعل البشعة من ناحية نفسيّة بالأساس، وهذا ما يجعلنا نتساءلُ حولَ كيفيّةِ تكوّن الفكرة، الفكرة التي تمثّلُ حجر الأساس لردّة الفعل، داخل الوعي الجمعي، وما ينجرُّ عليها من تغيير جذري في أسس تفكيرِ الجماعة.
(1)
يمثّلُ الوعيُ الجمعي، كما يعرّفهُ علماءُ النفس الاجتماعي، افتراضَ الجماعةِ (الجمهور)، في حالةٍ مُعيّنة، أنّ تصرّفاتها تعكسُ سلوكًا صحيحًا. يفقدُ خلالها (الفردُ) القُدرةَ عن البحثِ عن (الحقّ) بشكلٍ مُستقلٍّ، نظرًا لعدّة عواملٍ فاصلة، نتبيّنها بعد قليل، فيتّخذُ (الآخرَ) قيِّمًا وحَكمًا على صحّةِ الفعلِ من فسادهِ، فيتكوّنُ عبرَ مراحلٍ هذا الذي نُسمّيه العقل الجمعي. وأرى أنّ سببَ هذا الافتراض، في مسألتنا البورميّةِ، أساسًا تداخُل عدّةِ مفاهيم كالهويّةِ، التصوّر والماصدق (الواقع)؛ أي دعاوى المُحافظة على الهويّة الذّاتية والاستقلاليّة القيميّة للمجتمع، التّراث والأصول، ولم تكتف الجماعةُ هنا بمجرّدِ تشويشِ الأفكارِ بل تتخذُ جُنَّةً من الأدلّةِ لتثبيتِ مألوفها الجديد.

من بينِ هذه الأدلّة ما تكونُ نتيجةَ الارتيابِ (الغموض) وفقدان القدرة على التمييز كما ذكرنا، وهو ما يُسمّى الدّليل الجمعي، أي أنّ الجماعة هي الحقّ، ولا تضلُّ الجماعةُ في حكم أو رأيٍ اتّخذتهُ. وأيضا عندنا (نوع الثقافة) أي أنّ الناس في الثقافات الجماعيّة يتوافقون (يميلون) للعقل الجمعي، نظرًا لشعور الشخص فيها بالمسؤوليّة تُجاهَ الآخر. على عكس الثقافات الفرديّة، فهي تميلُ لرفع الوعي الفردي أكثر. و(التشابه) وهو فرعٌ عمّا سبق، فأن تُشابهَ ألفًا في فعلٍ أُسِّسَ لهُ بطريقة تخييليّة أمرٌ مُريحٌ فعلا..

هل يمكنُ إنهاكُ هذه الرّغبة وذلكَ الدّافع؟ هذا هو السّؤال المُلحُّ والأهم، ليسَ لتعلّقه بالمسألة البورميّة فقط، بل لتعلّقه بالإنسانِ بما هو إنسانٌ عاقلٌ مُريد. أرى أنّ ذلكَ ممكنٌ، بل ومُتاحٌ

(2)
تتّخذُ هذه (الحُججُ الدّفاعيّة) شكلَ الإقناعِ لا البرهنة، ويُمكننا فهمُ ذلكَ بالاستعانةُ بالمبادئ السّتة للإقناعِ لــروبرت شلديني:
– التّبادليّة أو قانون التّبادل، أي التفاعل المُتبادل بين الأشخاص "تتغلغل في كلّ المبادلات من جميع الأنواع"، وهذا الذي يؤثر في الجماعات ويجعلها ملتزمة ومتجانسة، مُحقّقة للمبدأ.
– الالتزام، وهو ذلكَ المبدأ المُحقَّق؛ بمعنى الإحساس بالقيمة، أن تُساعد وأنت تعلم أنّ ذلك لن يضيع. وهو ما يُساهم في تشابك العلاقات البينية في المجتمع وصعوبة الخروج عن رأيه وتوجهاته العامّة (العقل الجمعي).
– السّلطة؛ وهي القوّة بمختلف تمظهراتها؛ وهي هنا ذوي الماكانات العالية سياسيّة واجتماعية ودينيّة بعموم. وتكتّل هذه الطّبقة على رأي واحد يساهمُ بشكلٍ واضحٍ وشبه نهائي في صياغة القرار عند الجماعة، حتى في أكبر المجتمعات الديمقراطيّة.
ويدخلُ في الأخيرةِ الاستهواءُ لكنّهُ مستوى دونَ ذلكَ.
– النُّدرة؛ حينَ تبدو فرض الإنتقام "النادرة" تصبحُ مرغوبةً بدافعٍ غريزيّ لا تُقاوم.
– وأخيرًا التّأثير الفوري؛ أي انتهاج أقصر السُّبُلِ للهدف، وهل هناكَ أقصرُ من إزهاق الأنفس؟
هذه المعايير الموضوعيّة تجعلُ تصوُّرَ المسألةِ أعقدَ من كونها قتلًا وسفكًا للدّم، أو إبادة عرقيّة ودينيّة، بل هي مسألةٌ نفسيّةٌ فلسفيّة -بالمعنى العامّ- .

(3)
هل يمكنُ إنهاكُ هذه الرّغبة وذلكَ الدّافع؟ هذا هو السّؤال المُلحُّ والأهم، ليسَ لتعلّقه بالمسألة البورميّة فقط، بل لتعلّقه بالإنسانِ بما هو إنسانٌ عاقلٌ مُريد. أرى أنّ ذلكَ ممكنٌ، بل ومُتاحٌ، وذلكَ عبرَ ثلاث مستويات:
الأوّل: وهو المُتعلّقُ بذاتِ الفردِ داخلَ الجماعة، لأنّهُ هرمُ المُعادلةِ نظرًا لأنّهُ المُنتجُ لأداةِ التّواصل البينذاتيّة، وهو صاحبُ المُفردة ومُنتجُ "الحرب" و"السّلم"، "القوّة" و"العجز" وكلُّ عبارات الأسى والنّشوة، حتى تلكَ التي أدوّن بها الآن. فمن واجبه (إعادةُ هيكلة) مباني مفرداتهِ اليوميّة، وأن يعي دلالتها ومجازاتها؛ لأنّهُ كما يُقال من ملكَ لسانهُ ملكَ نفسهُ.

الثاني: وهو المُتعلّق بالمنظماتِ والدّول الصّانعةِ لوعي الجماعاتِ؛ وتتمثّلُ مهمّتها في إحباطِ (الألعاب اللّغوية) للجماعةِ، على حدّ تعبير لودفيغ فيتغنشتاين، وتأسيس لخطاب لساني جديد يُميّزُ بينَ القضايا الدّائريّة والعاديّة، والمعنى واللّفظ، والمجاز والحقيقة.
الثالث: وهو المتعلّقُ بالمثقّف؛ وسببُ تأخيرهِ مع كونهِ من صنّاعِ الوعيِ الجمعي هو ضعفُ مجالِ تأثيرهِ بالمقارنة بالمؤسسات والدّول. ولا تتمثّلُ مهمّتهُ فقط في قول الحقيقة، لكن في إظهار كيف نجعل تغيير ما نرغب فيه ممكنًا، على رأي نعوم تشومسكي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.