شعار قسم مدونات

يوم راحوا وتركوا ذكراهم

Blogs-syrian

في تلك الليلة حينما كنت جالسة أطالع بعض المقالات، لم أفكر أبداً في لحظتها أن ألتفت إلى زخم الأخبار الهائل من حولي، ماذا يجري اليوم في حلب حينما كانت ضحية للقصف الهمجي؟

         

سمعت رنين جوالي مراراً لكني لم أكترث، ليس شيئاً مهماً قلت ذلك في نفسي، فمن عادتي ألا أجيب إن كنت منشغلة بأمر ما، رغم أن الجوال كان بجانبي، "اتصلي بوالدك اطمئني عنه وعن إخوتك" هذا ما قاله لي، في حينها مسّ قلبي الخوف، فليس من عادته أن يقول لي ذلك، دون أن أسأله لماذا، أو ما السبب، سارعت أرسل لأبي لأطمئنّ عليه "أبي أين أنت أرجوك أخبرني" لكنه كان مغلقاً هاتفه، " كنت آنذاك أنتظر زيارته لي، أبي وعدني أن يأتي إلي لكنه تأخر، ولم أعد أنتظره، ها أنا عدت، لكنّي لم أره، أنتظر موعدي وإيّاه.

     

ما إن رأيته مُغلقاً هاتفه سارعت أتحدث مع أحد إخوتي وأمي، لكن لم يصلهم أي خبر ما الذي يجري هناك، وأبي ليس في المنزل، والسماء تنهمر بالمتفجرات والصواريخ، وكان هدفها مكان عمله، كيف تكون هذه الليلة، ونحن لم نسمع أي شيء عنه، وبعد هنيهة من الزمن بدأوا يتداولون خبر إصابته "لقد أُصيب بشظايا"، ولكن لم يتجاوز انتشار نبأ إصابته بضع دقائق، حتى سمعت الجميع يتداول خبر استشهاده بشكل مؤكد. أخشى على نفسي الآن أن أتذكر كيف كان انشغالي ما بين الدقيقتين اللتين حملا خبر إصابته ونبأ استشهاده، فقد راح رجل الإنسانية ضحية لها، لا أستطيع وصف حالي! هل عليّ تصديق هذه الأنباء؟ كيف لهم أن يقتلوه وهم على علم أنه في ذلك المكان.

      

أبي للمرة الألف لا زلت أنتظر موعدك، هيا لا تتأخر، أو ادعني إليك، ادعني لأصير قريبة منك، وأخبرني عنك كيف حالك هناك

دائماً ما يتظاهرون بالحُسن ويقتلون الأخيار، أخبروني أنّه كان في الداخل وقد سمعوا صوته يناديهم، لكنهم لم يستطيعوا الاقتراب، المكان مشتعل، والطائرات لا زالت تحوم في السماء، وتمطر المكان بصواريخها، لم تكن إصابته بليغة، لكنهم تأخروا عليه فنزف دماً كثيراً، لقد كان سبّاقاً في مساعدة الناس وخدمتهم، لكنه ظلّ وحيداً حينما قَدِم الموت وناجاه ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، لقد أراده الله له، فما أجملك يا شهيد في صورتك تلك، كنت ملاكاً نائماً.

   

تذكرت آخر مرّة رأيته فيها حينها أخبرني، " والله يا بنيتي كنت أظنّ أن الموت قريب مني، وأني أول المسافرين ولم أتخيل أن يسبقني ولدي" لقد كان منهكاً تعباً، وقد تعرض ثلاث مرات قبلها لحوادث كانت أوشك للموت، وكانت هذه الأخيرة، تمنيت في وقتها أن أقدر على حمل ألمه، وأن أمسح الهم عن قلبه، لكنه كان مستعجلاً، لطالما انتظرت عودتك لكنك تأخرت، فعدّت أنا لكني لم أراك، لم أعتد على حزن يأتيني منك، لطالما كنت أرنو على كتفك وأبكي.

     

هل تدري أنه لم يطاوعني قلبي أن أزورك هناك، خشيت ألا أقدر على العودة، وأن ينهار دمعي وتقوى عليّ نفسي، كيف لي أن أتخيلك هناك، وكيف لي أن أزورك دون أن ألقاك وتحتضنني؟ أبي للمرة الألف لا زلت أنتظر موعدك، هيا لا تتأخر، أو ادعني إليك، ادعني لأصير قريبة منك، وأخبرني عنك كيف حالك هناك، أود البوح لك لطالما حلمت بأن تكون مسعفي وأن تحمل يداك نعشي، وأن ترتل لي القرآن على قبري. تماماً أن يكون آخر أيامي كأولّ يوم لي على هذه الدنيّا، بتكبيراتك في أذني، وبين ذراعيك تحملني، اشتقت إليك، وعاهدت نفسي، أن أظل أرتل في قلبي "ربي ارحمه كما رباني صغيراً".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.