شعار قسم مدونات

بين أبراش الألم.. يولد الأمل

Blogs-prison
البُرْْش! تلك الكلمة التي يستخدمها الأسرى الفلسطينيون فيما بينهم للتعبير عن مكان النوم للأسير في غرفته، غريبة هي قواميسهم! سرعان ما تتبدل الكلمات وتتخذ الأشياء مسمّياتٍ مختلفةً حين يختلف المكان والزمان، فعندما يكون هذا الأسير بين أهليه وأحبائه يستبدل قاموسه الأسير بقاموس الحر الطليق، فيغير التسمية من البرش إلى السرير.
      
ماذا لو أنّ ذاك البرش له لسان حال! ما الذي يمكن أن يقوله؟ كم احتضن بين جنباته آهاتٍ وآمالاً كبيرة بحجم أحلام أصحابها. ولو أسقطنا عليه أمراض البشر لأصيب بالجنون منذ زمنٍ بعيدٍ من هول ما رأى وسمع، فتارةً سيكون رفيقاً لعاشقٍ فارق محبوبته كراهيةً وعنوةً بعفلِ محتلٍّ ينكر حقّه في الحياة قبل الحب، سيشعر بآلامه ويحنو عليه في مصابه ويتقطّع حزناً على آماله وهي تهدم أمامه بمضيّ سنون السجن، وما أن تكاد الألفة والمحبة تتشابك بينه وبين رفيقه المتعب بطول الفراق؛ حتى يأتي ذاك العابس السجّان بأمرِ نقلٍ يحرمه من رفيقه الذي اعتاد مناجاته لربّه!
       
من؟ ومتى؟ وكيف؟ أسئلة تدور بخُلد البرش تتقافز لترسم إجابةً ولو كانت غير دقيقة لتمحو رهبة القادم الجديد عنه، من هذه المرّة يا تٌرى؟ أهو كحال رفيقي السابق الولهان بعشقتيه (فلسطين الحبيبة وفلسطين الوطن)؟ أم هو راعٍ يخشى على رعيّته من بعده؟ أم أنّه طفلٌ هَشَمَ الاحتلال براءة طفولته ليُلقى هنا في قبور الأحياء. ما أقسى حياتي! فمكاني هنا في سجنٍ خالٍ من معالم الحياة، ولكنّ ما يثير جنوني هو أنّ هذا المكان يضجّ بأرواحٍ تهوى الحرية والحياة الكريمة، أفأنسى الحياة وأجاري المكان؟ أم أحلّقُ مع رفاقي في سحاب الحب والهيام والحرية؟
     
حريّتنا يوم ألا نرى من هؤلاء الحالمين أحداً! حريتنا يوم يُفتَح هذا الباب إلى الأبد، فنحن أصبحنا أحياء! نعم أحياء، ولكِن في أحلام رفاقنا الذين سيتحررون
حريّتنا يوم ألا نرى من هؤلاء الحالمين أحداً! حريتنا يوم يُفتَح هذا الباب إلى الأبد، فنحن أصبحنا أحياء! نعم أحياء، ولكِن في أحلام رفاقنا الذين سيتحررون
 

لقد جاء أخيراً مؤنسي الجديد، نعم إنّه طالبٌ اقتاده ذلك العابس إلى غرفتي، حينما استمعت إلى مناجاته تلك الليلة، لقد كانَ مزيجاً فريداً من الأحزان والآلام والآمال الكبيرة، يحلم بتخرّجه واتمام دراسته لخِدمة وطنه وأمّته، ويشفق على والدته المسكينة من عناء الفراق والزيارة المريرة بعد الإجراءات المنهِكة! كم هي عظيمة تلك الأمّ التي قاست وما تزال في سبيل رؤيته وتكحيل عينها ولو من خلف زجاجٍ لا يرضى بمرور صوتها الحاني خلاله! كم أنتَ قاسٍ أيها الزجاج! أنا لم أرك ولا أستطيع رؤيتك، ولكنّ صديقي ومؤنسي الجديد شَكاكَ كثيراً في مناجاته التي أرافقه فيها، قليلاً من الخجل أمام أمٍّ متعبةٍ من عناء الطريق ووعثاء السفر الطويل!

      
لقد أصبحت الجامعةُ مألوفةً لدي! فقد قام مؤنسي الجديد برفقة زملائه بتحويل غرفتنا إلى صفٍّ جامعيٍّ يزخر بالمعرفة! ما أروعك يا رفيق، تأبى الركون لليأس والاستكانة للظروف، لقد أطلقوا على جامعتي اسم "الجامعة اليوسفيّة"، ما أجمله من اسم. روعة جامعتي تكمن أنّها لا تقبل في صفوفها المتخاذلين وباعة الوطن ممن ارتضوا بمالٍ بخسٍ مقابل مبادئهم وثوابتهم -إن وجدت عندهم أصلاً- فهي لا تقبل إلا كبار الشأن ممن رَمَوا الخوف جانباً في سبيل قضيتهم الأولى، جامعةٌ تدرّس مساقاتٍ فريدةً كخدمة الأحبّة وتمنّي الخيرِ لهم، ولن تصل إليه إلا باجتياز مساق الصبر والصمود. فيها مرافق مميزةٌ عن باقي الجامعات، فتجد فيها ساحةً أسماها طلابها "الفورة"، ينفسّون بها عن أرواحهم التي يحاول ذلك العابس أن يجعل الظلام يكتنفها فلا ترى بصيصاً من نور، تلك الفورة التي يؤدون فيها صلاتهم، ويتناقشون في محتويات المساقات، كما وأنّها ملعبٌ للرياضة! نعم، جامعتي مميزة وذات رونقٍ خاصٍّ لا يستطيعها إلا كبار النفوس وصفوة الناس.
كم أتوق للحرية، ولكن سرعان ما تصدمني إجابةٌ من البرش المقابل، يناديني ويقول "كيف لنا يا رفيقي أن نتحرر ونحن خٌلِقنَا لنحتوي أحلام هؤلاء في مكان يسمونه قبور الأحياء!" لمعت في ذهني الإجابة الملهمة، وقلت له "يا رفيقي، حريّتنا يوم ألا نرى من هؤلاء الحالمين أحداً! حريتنا يوم يُفتَح هذا الباب إلى الأبد، فنحن أصبحنا أحياء! نعم أحياء، ولكِن في أحلام رفاقنا الذين سيتحررون، لأنني أصبحت أؤمن يا رفيقي، بأن سجناً يحاول جاهداً قتل تلك الأحلام سَيُهدم، الأحلام التي تعجّ بتضاريس المحبة والحياة، هيا بنا يا رفيقي نبعث روحاً من الأمل في أحلام رفاقنا التائقين لشمس الحرية والتحرير".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.