شعار قسم مدونات

الخطيئة الكبرى.. هل يكفي الاعتذار؟

blogs تيريزا ماي

لا أدري ما معنى أن تعتذر بريطانيا عن نكبة شعب شردته طيلة عشر عقود من الزمن، وهي اليوم تحتفي بالذكرى المائة لهذا الوعد، ويسيطر على تفكيري خبر مطالبة بريطانيا بالاعتذار على وسائل الإعلام؟ وماهية الاعتذار المطلوب، وهل ستعتذر فعلا عن الخطيئة الكبرى؟

 

لماذا نصل إلى أقصى درجات الامتهان، "أترى أكلُّ الرؤوس سواء.. أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟!..وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك.. بيدٍ سيفها أثْكَلك؟".. هل ستغفر روح الطفلة الرضيعة الشهيدة "إيمان حجو" لبريطانيا جريمتها، أم هل سترتاح روح "الدرة" في قبره.. تبدو تناقضات لا حدود لها.. فنحن أصحاب حق لن يكفينا مليون اعتذار عن هذا الوعد المشؤوم الذي ظل محفوراً في الذاكرة الفلسطينية، وبات اسم صاحب هذا الوعد هو الاسم الأكثر إثارة للوجع الفلسطيني الذي لا يزال نازفاً في الداخل الفلسطيني وفي دول الشتات.

إذ لا يزال الشعب الفلسطيني يعاني من آثار ما خلفه وعد بلفور الذي سعت من خلاله بريطانيا لخدمة مشروعها الاستعماري في المنطقة، فكان ذلك الوعد الخطيئة على حساب شعب فلسطيني راسخة جذوره في أعماق التاريخ كما هي أشجار الزيتون المنغرسة في عمق أرض فلسطين، ليترك الشعب الفلسطيني يواجه أكبر عملية سرقة للتاريخ والهوية لأجل لمامات من اليهود تم تجميعهم من مختلف أصقاع الأرض بدعم غربي وتواطؤ عربي لتبدأ معاناة ما زالت فصولها مستمرة حتى اليوم.

اعتذار بريطانيا! عن ماذا تعتذر؟ حق الشهداء والأطفال والأرامل والثكلى.. حق من هُجِّروا من بيوتهم قسرا وضاعت أحلامهم وآمالهم مع أخر حجر دُمَّر؟
اعتذار بريطانيا! عن ماذا تعتذر؟ حق الشهداء والأطفال والأرامل والثكلى.. حق من هُجِّروا من بيوتهم قسرا وضاعت أحلامهم وآمالهم مع أخر حجر دُمَّر؟

أعلم جيدا النوايا الخالصة للقائمين على حملة الاعتذار عن وعد بلفور، لكن النوايا الطيبة في مجابهة مكر الإنجليز وقتل اليهود لا تكفي. أن نظهر أمام العالم بمنظر "الكيوت"، الذي لا يريد سوى اعتذار، هذا لا يكفي.. فالعالم لا يحترم إلا الأقوياء، وبريطانيا حينما قدمت فلسطين على طبق من ذهب لليهود، كان العرب يعيشون في أوج ضعفهم.. وما زالوا. قبولنا كعرب ومسلمين بالإجراءات المعنوية هو بالكاد ما أضاع فلسطين ومصر واليمن وسوريا ولبنان والعراق وتونس والجزائر والسودان والمغرب بل أضاع هوياتنا الأصلية ..

اعتذار بريطانيا! عن ماذا تعتذر حق الشهداء والأطفال والأرامل والثكلى.. حق من هُجِّروا من بيوتهم قسرا وضاعت أحلامهم وآمالهم مع أخر حجر دُمَّر.. حق شجر الزيتون الذي اقتلع ليزرع بدلاً منه الغرقد.. حق المجازر الضحايا والجثث حق القهر والاستبداد والظلم الصهيوني طوال هذه السنين حق الأرض التي تغير معالمها وحدودها.. عن أيها ستعتذر.. هل كلمة اعتذار تكفي؟

الذنب المقترف من بريطانيا وبلفور، وكل من تواطئ، تعدى كل توقعات وتخيلات الإنسان.. باعوا وطن وأرض، باعوا شعب، باعوا أمة بأكملها، لن تبرأهم عريضة تواقيع، كما أن ملاحقة المتسببين في هذا الوعد لا يمكن أن يسقط بالتقادم، فحق الشعوب بالحياة لا يسقط على مدار الزمان وكثير من الحقوق التي تم الاعتداء عليها وتشكل جرائم ضد الإنسانية التي لا تسقط بالتقادم حسب القانون الدولي.

الشعب الفلسطيني يعلنها اليوم صرخة مدوية أن انتهت مئوية وعد بلفور وبدأت الآن مئوية التحرير وهذا وعد رباني، وشيء مُحقق، لكن لا بدُ من العمل لأجله بدعم المقاومة

أعتقد أن المطلوب عدم استنزاف الشعوب والطاقات الشبابية بمطالب اعتذار، وأن لا نعيش حالة "وهم" باعتذار رفضته "تيريزا" من أول يوم، وحتى لا نكون أداة تزييف للوعي العربي، فالمطلوب اليوم بناء حالة وعي عربي ضمن مرتكزات واضحة، لا يكون جل همها اعتذار، فقضية فلسطين أكبر بكثير من اعتذار.. إلا إذا كان الاعتذار سيعيد فلسطين.. فمرحبا به.

كفانا استخفافا بالعقول وانجرارا وراء العواطف فقط، فلسطين ستعود حتماً بأيدي أبناءهاً الذين لا يزالون يواجهون آلة الإجرام الصهيوني بصدورهم العارية، فها هم في القدس من المرابطين والمرابطات ضربوا لنا أروع أمثلة الصبر والصمود والدرع والحصن الحصين ضد مخططات الاحتلال، وغزة.. كنّا من الشاهدين لمجريات أحداث حروب ثلاث.. كنّا من الشاهدين على مشاهد ظلم وقتل وانتهاكات ارتكبت بحق الغزيين.. مشاهد كانت الكابوس القاتل لكل من لم يهن عليه حق الجوار والديانة والقضية، حق فلسطين.. فهل يكفي الاعتذار؟

فالشعب الفلسطيني يعلنها اليوم صرخة مدوية أن انتهت مئوية وعد بلفور وبدأت الآن مئوية التحرير وهذا وعد رباني، وشيء مُحقق، لكن لا بدُ من العمل لأجله بدعم المقاومة بشتى الوسائل وبدعم صمود الشعب الفلسطيني والتعريف بقضيته وفضح ممارسات الاحتلال وتفعيل المقاطعة للكيان الصهيوني، حتى يكون لنا سهم في مسيرة التحرير التي هي قادمة لا محالة ليس بتوقيع وليس باعتذار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.