شعار قسم مدونات

الإسلاميون في بيئة الصراع الدولي.. معالم أساسية (2)

مدونات - الجيش الحر

خلصنا في التدوينة السابقة إلى أن المعضلة الأساسية بفعل الإسلاميين في بيئة الصراع الإقليمي والدولي هي غياب الاستقلالية عن غيرهم من الفاعلين مثل تركيا وقطر والسعودية مثلما خصمهم مرتهن لإيران أو الإمارات أو السعودية كذلك، وإن غياب الاستقلالية تلك هي السبب الرئيسي فيما يحصل لهم من هزائم. الآن نناقش كيف يمكن الخروج من تلك المعضلة. إن أول طريق الخروج هو إدراك حقيقة واضحة وبديهية تحكم أي "لعبة" سياسية وهي أن أي طرف متداخل معهم لا يعبر عن كتلة واحدة صماء بقدر ما يعبر عن مجموعة من الفاعلين داخلين في حلف مصالح مشتركة، كما بينهم تلك المصالح المشتركة فبينهم تناقضات أخرى متباينة، بل في بعض الأحيان يكون تناقضهم أكثر من تحالفهم ولكنه مؤجل لمرحلة لاحقة حتى تتحقق المصلحة الآنية، ولهذا في علم السياسة يتم التفريق بين ما يمكن اعتباره تحالف استراتيجي وما يمكن اعتباره تحالف تكتيكي.

 
فإذا نظرنا للحالة السورية فهناك تناقضات بين روسيا وإيران والنظام السوري وحزب الله، بل إن كل فاعل من هؤلاء يعبر عن مجموعة من الفاعلين بداخله بين كل منهم تباينات يمكن أن تصل إلى تناقضات لاحقا، فإيران هناك تباينات بين الحرس الثوري وبين وزارة خارجيتها وبين استخبارتها وبين الجيش وهي الأجهزة الفاعلة بالميدان السوري، بل هناك تباينات أصلا داخل الجهاز الواحد مثل الحرس الثوري خاضعة لتباينات ألوان الطيف السياسي الإيراني.
 
 وهذا يمكن فهمه ببساطة في انسلاخ "البي كي كي" من تحالفها مع نظام الأسد عقب استفادتها المرحلية منه في دعمه لهم للتمدد محل "داعش"، وهذا اكتشفته مبكرا نتيجة لمقابلة أجريتها في أكتوبر 2015 مع ضابط سوري منشق ولكنه مازال محتفظ بولائه للنظام السوري، واعتراضه فقط على القيادة الحالية. قال لي نصا: ما تراه الآن هو تحالف تكتيكي وعندما نصل للمرحلة التي سيسعى فيها الكرد للانفصال بكيان فيدرالي فسيواجههم الجيش، وإن لم يسع بشار لذلك فالجيش سيفرض عليه ذلك! ونفس هذا الضابط هو الذي لفت انتباهي لأول مره للتناقضات بين الجيش النظامي وحزب الله والتي هي قديمة جدا وتخضع للحساسيات المعهودة بين السوريين واللبنانيين عبر عنها لي هذا الضابط بعبارة شديدة البساطة بقوله: "كيف أقبل أنا كسوري أن يكون قائدي لبناني أؤد له التحية وأقول "احترامي سيدنا"؟! ولهذا أنا انشققت!".
   

حزب العمال الكردستاني
حزب العمال الكردستاني "البي كي كي" (PKK) هو حزب سياسي كردي يساري التوجه  (رويترز)

 
وحتى الكرد بينهم تناقضات عديدة ولا يمكن اعتبارهم كتلة صماء؛ فبينهم تناقضات سواء داخل الفصائل الكردية السورية نفسها أو داخل كردستان العراق أو ما بين كردستان العراق وأكراد سوريا. وهو الأمر نفسه الذي يجري على فصائل الثورة السورية، فنحن لدينا أربعة اتجاهات رئيسية هي: الجيش الحر وأحرار الشام وجيش الإسلام وهيئة تحرير الشام أو القاعدة وتحت كل تلك الاتجاهات تباينات عديدة جدا، فداخل الجيش الحر تباينات من الإسلاميين إلى الضباط المنشقين للاعتراض على بشار ومستوى القيادة بسوريا فقط وصولا لشخصيات مثل "فاروق الشرع" لو لم يتم إبعادها لما ابتعدت! وكذلك الأمر بالنسبة مثلا لهيئة تحرير الشام، فالهيئة بالجنوب وارتباطها بالنظام الأردني تكاد تكون كيان مغاير للهيئة في إدلب عدا طبعا الميليشيات الجهوية التي لا تدين بالولاء لأحد الكيانات الكبرى والتي تنته ثم يعاد تشكيلها بأسماء أخرى إلى أن نصل لتشكيل الصورة العامة للفصائل السورية التي تجاوزت الألفين فصيل، الآن نجد صورة شديدة التباين والتعقيد جدا.

 

وهذا كما قلنا هو شىء بديهي جدا بأي لعبة سياسية وعليه يجري تعريف السياسة أصلا بكونها "فن إدارة المتناقضات"، بل إن هذا هو سنة الله عز وجل في الحياة البشرية جمعاء، بأن يكون البشر متباينين ومختلفين وعليه تحدث التناقضات بينهم، فلهذا كان من خطيئة العقل العربي الإسلامي هو التفكير بخلاف ذلك بأن يركن عقله إلى تفسير ميتافزيقي مريح: هناك مؤامرة كونية شمولية تجري ضده وأن العالم كله يتآمر ضد الثورة السورية ولتثبيت بشار في السلطة من أمريكا لروسيا، وليس لنا من الأمر شيء غير أن نقول "مالنا غيرك يا الله"! مع أن الله عز وجل نفسه هو الذي قال "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" وهو القائل "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ".  ويحلو للأسف الشديد لكثير من السوريين الارتكان لمثل تلك التفسيرات التآمرية المريحة في تفسير "لماذا أخفقوا؟!" أو كما عبر لي صحفي قريب من الفصائل السورية -أحترم تفكيره وعقله كثيرا- كنت أشرح له تباينات الخريطة السياسية الإيرانية فرد علي بقوله: "كلهم في النهاية هم نفس المجرمين الذين يقتلون أهلنا بسوريا!".
   
 فإذن البديل مثلا بالحالة السورية لتحقيق مطلب الاستقلال لأي فاعل في الثورة هو أن يرسم خارطة دقيقة للتناقضات الموجودة بالفاعلين المتشابكين مع المسألة السورية ويعيد تموضع نفسه على مفاصل تلك التناقضات. فإذا رسمنا تلك الخريطة بإيجاز فهناك تناقض بين البيئة الدولية المعنية بسوريا الممثلة بأميركا وروسيا والصين وبين مستوى الفاعلين الإقليميين المتشابكين مع الحالة السورية أي إيران وتركيا والخليج وإسرائيل، ومستوى الفاعلين المحليين المباشرين أي النظام السوري وفصائل الثورة وحزب الله -بالرغم من أن حزب الله الآن فاعل إقليمي-.

  undefined
 
وهناك تناقض رأسي داخل كل منظومة تحالفات، فهناك تناقض كما قلنا ما بين روسيا وإيران وما بين إيران والنظام السوري وما بين حتى إيران وحزب الله -وإن كان أخف- وما بين إيران والفصائل العراقية المتماسة مع المسألة السورية، وكذلك هناك تناقض مثلا ما بين الولايات المتحدة وتركيا واضح في المسألة الكردية وغيرها، وهناك تناقض بين تركيا والخليج وهناك تناقض داخل الخليج نفسه ما بين قطر وبين السعودية والأردن ينعكس على الفصائل التي يدعمها كل طرف منهم.

 
ولا زلت أذكر بشكل جيد عندما التقيت أكاديمي إيراني يعمل مستشار لحكومة روحاني وكان ذلك في نهاية عام 2015 كذلك بعد أسابيع قليلة من بدء العملية العسكرية الروسية بسوريا، فكنت أناقشه فيما أعتقد أنه نقاط التناقض بين روسيا وإيران وهي المسألة الكردية والحل على أساس ديموغرافي أو محاصصة طائفية ومشاريع الغاز المعطلة، فقال لي الجملة التي مازلت أذكرها إلى الآن بنصها "اللعبة الآن هي لعبة الأذكياء والأكثر ذكاء هو من سيجعل مصلحته هي الغالبة بعد أن تنقض ضرورات التحالف بيننا وهي أن لا تكون أميركا المهيمنة على سوريا وتفرض حكومة موالية لها! بعدها فسنرى من أكثرنا ذكاء ليغلب مصلحته على الآخر!". وبالمناسبة فإن الفعل التركي بسوريا من بعد الانقلاب من الأستانة إلى سوتشي حاليا هو مرتكزه الاستراتيجي الأساسي، أي كيف يكون الأتراك هم المتحكمين في مساحة التناقض بين روسيا وإيران.
 
 فلذا التخطيط السياسي للسلاح يكون بتحديد نقاط التناقض بين كل ما سبق. وتحليل ذلك يحتاج إلى مساحة أكبر ثم يعيد الفصيل الساعي لاستقلاليته تموضعه من خلال الوقوف على نقاط التناقض تلك، والمثير للأسى أن من كانوا يفهمون تلك المسألة جيدا جدا كانت "داعش"، ولم تكن الحالة الداعشية لتكون بيننا من 2014 حتى انتهائها حاليا -على الأقل- في نهاية 2017 إلا لكونها كانت تفهم تلك التناقضات بشكل جيد إلى حد ما وتلعب عليها، وهو ما لم يفهمه للأسف غيرهم.

 

تحالف ناهض حفتر وبرقة والزنتان هو تحالف الأضداد ولو كانوا انتصروا على حكومة طرابلس وكتائب مصراته لكانوا انتقلوا للاقتتال بينهم
تحالف ناهض حفتر وبرقة والزنتان هو تحالف الأضداد ولو كانوا انتصروا على حكومة طرابلس وكتائب مصراته لكانوا انتقلوا للاقتتال بينهم
 

ونحن إذا وسعنا الدائرة وانتقلنا لأمثلة خرى سنجد أن نفس الشىء ينطبق مثلا على اليمن، فأيضا بنهاية عام 2015 كنت قد قدمت ورقة سياسات لجهة حكومية عربية كانت حينها تستطيع أن توجه تحرك التجمع اليمني للإصلاح، فكانت خلاصة ما قدمته أن تحالف علي عبد الله صالح مع الحوثيين هو تحالف الأضداد وتصارعهم حتمي ولكنه مؤجل، فلذا الاستراتيجية الأمثل للإصلاح هي أن تجعل ذلك المؤجل مقدم، أي أن يتم التعجيل بالتناقض والصراع بين الحوثي وصالح وتبدأ تفاهم مع أيا منهما -وكنت أرجح الحوثي- وبنفس الوقت تحاول نحو إيجاد تحالف مع الحراك اليمني الجنوبي وتعطيهم كل ما يطلبونه ويسألوه لأن كل ما يطلبوه ليس مهما الآن حتى لو وصل إلى شكل انفصالي عمليا؛ لأن المهم أن لا تنفرد جهة بأن يكون موطىء قدمها باليمن عبر التحالف معهم منفردين -وكان تقديري حينها أن تلك الجهة ستكون عمان ولكني كنت مخطئا، وللغرابة فإن عمان فضلت أن تنسق سياستها في اليمن بشكل كامل مع إيران ومن قام بتلك الخطوة مؤخرا كانت الإمارات-.
  
وكذلك كما فهمت من باحثين ليبين مطلعين فإن ذلك يجري على ليبيا، فتحالف ناهض حفتر وبرقة والزنتان هو كذلك تحالف الأضداد ولو كانوا انتصروا على حكومة طرابلس وكتائب مصراته لكانوا انتقلوا للاقتتال بينهم. وهذا كله طبيعي جدا لأن العنوان العريض الذي نعيشه الآن منذ شرارة الربيع العربي هو فشل الدولة العربية في استيعاب مكوناتها الفرعية سواء كانت تلك المكونات تحت عنوان طائفي مثل سنة وشيعة أو تحت عنوان عرقي مثل أكراد وعرب أو تحت عنوان قبلي وجهوي مثل برقه وزنتان أو حاشد وأحمر وحضرمي.. إلخ!

  
كل تلك المكونات وصلت الدولة العربية إلى نقطة الصفر في استيعابها لهم، وإمكانية أن يحققوا طموحهم من خلالها فكان البديل هو الثورة، وخطيئة الإسلاميين عموما أنهم قبلوا أن يكونوا أداة مد عمر تلك الدولة العربية مثلما قبل الإسلاميين باليمن بوثيقة الانتقال الخليجية وقبل إسلامي مصر وضعا مشابها فكان جزاؤهم هو أن يكونوا هدف الثورة المضادة المعبرة عن البنى التقليدية للدولة العربية بعد أن كان الإسلاميون هم السبب الرئيسي في وجود تلك البنى معنا حتى اللحظة الراهنة!
فهذا يقود إلى السؤال الأهم وهو: لماذا إذن وما الغاية من أن يعيد الإسلاميون ممارسة اللعبة السياسية وفقا لتوصيفها بأنها فن إدارة المتناقضات؟ الجواب ليس لتحقيقهم انتصار على خصومهم فهذا غير ممكن على كل حال، كما سنشرح بالتدوينة التالية، وإنما بغية أن يعيدوا تموضع لأنفسهم بأن يكون دورهم الرئيسي والأساسي هو إعادة لحمة المكونات الثانوية والفرعية المشكلة للمنطقة العربية وفقا لعقد اجتماعي جديد.
 
 undefined
 
فالهدف الممكن للإسلاميين بسوريا ومن يتمسك به سيحقق الانتصار هو أن دورهم إيجاد دولة جديدة يجتمع بها العرب السنة والعلويون والكرد والدروز والمسيحيون على خلاف ونقيض دولة البعث وعلى خلاف ونقيض المطروح من محاصصة ديموغرافية وطائفية. الهدف الممكن للإسلاميين باليمن أن يكونوا أداة توحيد اليمن من جديد من عدن إلى صعدة على أساس دولة جديدة تكون نقيض للدولة المهترئة منذ الوحدة عام 1990 وتكون خلافا لوثيقة الخليج عقب الثورة ضد صالح والتي لم تعد أساس ناجع الآن لأي حل سياسي باليمن! الهدف الممكن للإسلاميين بليبيا أن يكونوا أداة توحيد ليبيا وفق أساس جديد مخالف للعب القذافي بتناقضات الداخل الليبي والتي يعيد خلفية حفتر الآن محاولة اللعب عليها.

 
ولهذا كان مهم تلك المقدمة من ثلاثة تدوينات التي قدمنا بها لتلك السلسلة حاليا لتبيان أن الإسلام وفكرة التوحيد المركزية استطاعت أن تكون أساسا لإقامة دولة تعددية مفارقة لزمانها بعهد الرسول والراشدين، والفرق بينها وبين ماكان يمكن أن تكون عليه دولة العرب لو لم يبعث الله نبيه محمد للعرب وللناس كافة، فاستلهام مثل ذلك سيجعل من الإسلام الفكرة الرئيسية التي يمكنها أن تعيد صياغة عقد جديد من خلاله تستطيع كل المكونات بالمنطقة العربية الطائفية والعرقية والقبلية أن تجد لنفسها مكانا وتعبر عن ذاتها ووجودها. وبالتالي فهذا هو واجب من يحملوا لواء الفكرة الإسلامية أن يصنعوه، ولذا فهم بذلك أعادوا بناء تحركهم السياسي وفقا للعب مع المتناقضات التي تشكل بيئة الصراع الحالي الممتد على الرقعة العربية، فذلك يجب أن يكون الوجهة والغاية لأي بناء دولة جديدة مرتكزها الإسلام الذي يستطيع أن يجمع الناس على قاعدة مشتركة واحدة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.