شعار قسم مدونات

الرأي الصهيوني الآخر

مدونات - القدس واليهود

في مداخلة ببرنامج "الاتجاه المعاكس" رد "مردخاي كيدار" الذي عرّفته القناة بـ"باحث في قسم الدراسات العربية بجامعة بار إيلان" بأن "القدس الشريف" تسمى في اللغة العربية "بيت المقدس" وبالتالي يشير ذلك الاسم لمكان "الهيكل اليهودي" الذي كان في مكان المسجد الأقصى حاليا -حسب قوله- بل استشهد بكتيب "أسلي" قال أن عنوانه "الحرم الشريف" يقول فيه الشيخ أمين الحسيني وهو المفتي العام للقدس، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، ورئيس اللجنة العربية العليا، وأحد أبرز الشخصيات الفلسطينية في القرن العشرين، أن الحرم الشريف كان مكانه فيما سبق "الهيكل اليهودي" والعالم كله أجمع على ذلك!

  
الحقيقية وبعيدا عن مناقشة أكاذيب الصهيوني "مردخاي" وبعيدا عن الجدل الدائر حول استضافته من الأصل في برنامج حواري وسماع رأيه وأكاذيبه وسمومه، إلا أن كلامه يشير لحالة من الجدل ليس في الدوائر العربية سواء الإعلامية أو الأكاديمية بل في الدوائر الأكاديمية والإعلامية الصهيونية نفسها. ففي (نيسان/أبريل) وفي مركز ديان بجامعة تل أبيب، عُقد مؤتمر على مدار يومين عن حرب 1948- المعروفة عن معظم الإسرائيليين بحرب الاستقلال وعند الفلسطينيين بالنكبة، مفسحا المجال لمناوشة كلامية حول حرب أخرى.
 
كانت هذه المرة هي الحرب على تاريخ إسرائيل، وعلى هوية الدولة، وضم الاشتباك مؤرخون وعلماء اجتماع وظهر فيه مرارة الانقسام بين التفسيرات المختلفة ليس حول أحداث 1948 فقط، بل حول التاريخ الإسرائيلي نفسه، الأمر الذي استدعى "شابتاي تيفيث" كاتب سيرة بن غوريون ليكتب سلسلة من أربع مقالات طويلة في صحيفة هآرتس اليومية. اتهم فيها بشدة هؤلاء العلماء بأنهم لا يشهرون بذاكرة رئيس الوزراء الأسبق فقط، بل بأساس دولة إسرائيل وسبب وجودها.

 

 undefined

  
فيذكر كتاب "السلطة والشعب" لتشارلز تريب، أن في هذا السياق قدم غيرشون شافير أحد علماء الاجتماع الناقدين، روايته حوله تشكله الفكري شخصيا. واعترف أن رؤيته النقدية لعلم الاجتماع الإسرائيلي وما رسمه من صورة حول المجتمع الإسرائيلي جاءت من مصادر متنوعة، تتجاوز أغلبها الروايات الرسمية التي اعتمدت عليها دولة إسرائيل في قيامها، وكذلك كان لتدهور إيمانه بالمؤسسة الصهيونية العمالية أن يؤدي به إلى التشكيك كثيرا في علم الأسطورة المحيط بها، ومن ثم القصص المؤسسة لدولة إسرائيل.

 
فكن صوت شافير صوتا مختلفا ومتنوعا في الرواق الأكاديمي الصهيوني، لكنه لم يكن وحيدا فقد تبعه عدة أصوات من علماء اجتماع ناقدين ومشككين في صورة المجتمع الإسرائيلي كله وبكل الدراسات التي أقيمت عليه، حيث تحدوا افتراضات كانت مريحة حول إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي.

 
لكن، إذا كانت هذه الحالة مع علماء الاجتماع الناقدين، فإن الحالة كانت أسوأ عندما بدأ المؤرخون الإسرائيليون تفنيد تاريخ إسرائيل، خصوصا في سياق علاقته بالشعب الأصلي من عرب فلسطين وكذلك بالدول العربية المحيطة، إذ أصبحت معتقدات كثيرة شائعة حول تأسيس دولة إسرائيل، وسلوكها في الحرب ومكانها في المنطقة محل شك وتكذيب، وقد جاء ذلك في كتب ألفها علماء مثل غابرييل شيفر ويوهو شافات هركابي الذي كان رئيسا للمخابرات العسكرية في خمسينيات القرن الماضي.

 
وعزم بعض المؤلفين، مثل سمحا فلابان على التحقيق، صراحة، فيما اعتبره الأساطير الرئيسية في الرؤية الإسرائيلية الرسمية لتاريخ الفترة من 1947 إلى 1949. بل إن كتابه المنشور عام 1987 "ميلاد إسرائيل- الخرافات والحقائق" كان منظما بطريقة تركز على دراسة سبع أساطير وخرافات -حسب تشارلز تريب- تشمل: "أن الصهاينة قبلوا تقسيم الأمم المتحدة وخططوا من أجل السلام -أن الفلسطينيين فروا طوعا بنية الفر والكر- أن إسرائيل المسالمة واجهت التدمير من جالوت العربية ".

 

كانت أطروحة إيلان بابيه أن التدمير الكلي للمجتمع العربي الفلسطيني وطرد الأغلبية العظمى من سكان فلسطين من العرب كان نتيجة لسياسة قصدية واعية من
كانت أطروحة إيلان بابيه أن التدمير الكلي للمجتمع العربي الفلسطيني وطرد الأغلبية العظمى من سكان فلسطين من العرب كان نتيجة لسياسة قصدية واعية من "التطهير العرقي"
 

هذا في حين أعاد آخرون اختبار جوانب معينة من هذا التاريخ، مثل المؤرخ بيني موريس في كتابه "ميلاد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من 1947 الى 1949" الصادر عام 1987، وآفي شلايم في كتابه "تواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله، والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين"، وكذلك إيلان بابيه في كتابه "بريطانيا والصراع العربي الإسرائيلي" الصادر 1988. وفي استناد هؤلاء الكتَّاب في أبحاثهم إلى الأرشيف الرسمي لتلك السنوات، والذي أُتيح الاطلاع عليه، حديثا في بريطانيا وإسرائيل، توصلوا -حسب تشارلز تريب- إلى "تنوع من النتائج لم تكن بأي حال من الأحوال موحدة بل اختلفت اختلافا واضحا عن الرؤى التي ظلت سائدة حتى تلك اللحظة في إسرائيل حول تلك الأحداث".

 
فمثلا كانت أطروحة إيلان بابيه أن التدمير الكلي للمجتمع العربي الفلسطيني وطرد الأغلبية العظمى من سكان فلسطين من العرب كان نتيجة لسياسة قصدية واعية من "التطهير العرقي"، وبصفته كاتبا في جريدة هآرتس علق قائلا "كان تأسيس دولة إسرائيل عدلا لليهود، صاحبه ظلم مريع للفلسطينيين".

 
وكان الجانب المقلق هنا ذا شقين: الأول، أنه لم يعد ممكنا عزو محنة اللاجئين الفلسطينيين إلى مجرد ظاهرة لا شخصية مثل "الحرب"، بل أصبحت أثرا مباشرا لأعمال بعينها من وحدات معروفة وأفراد معينين ممن كانوا يشكلون جزءا من لوحة الجيل البطولي من الصهيونية، والثاني: الإقرار ولو بمسؤولية جزئية عن الآثار السياسية المباشرة نظرا إلى ما كانت ستشرع فيه إسرائيل في التسعينات من مفاوضات مع الفلسطينيين ومن بين القضايا التي كانت مطروحة للنقاش مسألة اللاجئين الفلسطينيين ووضعهم ومستقبلهم.
  

رغم أن الكيان الصهيوني لم يتوقف عن عملياته العسكرية والاستيطانية الإجرامية في حق فلسطين والفلسطينيين، إلا أن  الزخم الأكاديمي والإعلامي شكل خطرا على إسرائيل من الداخل
رغم أن الكيان الصهيوني لم يتوقف عن عملياته العسكرية والاستيطانية الإجرامية في حق فلسطين والفلسطينيين، إلا أن  الزخم الأكاديمي والإعلامي شكل خطرا على إسرائيل من الداخل
 

كان هذا ملمح صغير جدا من الجدل الأكاديمي والإعلامي داخل إسرائيل سلط عليه تشارلز تريب الضوء في كتابه "السلطة والشعب"، لكنه أصبح خطرا مقلقا ودائما عندما تحول ذلك النقد وتلك الشكوك حول دولة إسرائيل إلى مسلسل وثائقي اسمه "تاكوما" بثته هيئة الإذاعة الإسرائيلية عام 1998، احتفاء بالعيد الخمسين لتأسيس إسرائيل، وقد دمج المسلسل كثيرا من النتائج البحثية لهؤلاء المؤرخين ممن كانوا جزءا من حركة إعادة تفنيد أساطير تاريخ إسرائيل. وقد أثار المسلسل غضب أرييل شارون وقتها حيث علق قائلا إن المسلسل "يشوه تاريخ إعادة الميلاد، ويقوض أي أساس أخلاقي لتأسيس دولة إسرائيل واستمرار وجودها" ورغم ذلك حقق المسلسل نسبة مشاهدات عالية، ومثلما قال غيديون دروري مخرج المسلسل "لم نختر تحطيم الأساطير، كانت بالفعل محطمة".

 
ورغم أن الكيان الصهيوني لم يتوقف عن عملياته العسكرية والاستيطانية الإجرامية في حق فلسطين والفلسطينيين، إلا أن هذا الزخم الأكاديمي والإعلامي شكل خطرا على إسرائيل من الداخل، الأمر الذي جعل تشارلز تريب يقول معلقا "أصبحت مقاومة رواية القصص المعينة عن الماضي التي تساعد في تثبيت دعائم النظم الحاكمة في الحاضر، يمكن أن يكون في منزلة تفجير من الناحية السياسية". وذلك ما يجب أن يلتفت إليه الأكاديميون والإعلاميون حاليا أن البحث والتنقيب والتشكيك في روايات السلطة وإعادة سردها هو عملية تقويض أسس النظم الحاكمة ويحمل بشرى انتهاء أسطورتها وانهيارها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.