شعار قسم مدونات

الأشياء الصغيرة التي نمتلئ بها

blogs - coffe

إن السمع، والبصر، والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولا، لو التفتنا جيداً لوجدنا أن المذكور ليس الحديث بل السمع، أي ليس إصدار الصوت أو الكلام بل استقباله، والبصر الذي هو  أيضاً بطبيعته عملية استقبال، استقبال للصورة، والفؤاد فيه نجد مجموع هذه.. وأثر الكلمات والأصوات والمشاهد يتجلى فيه وفي أحاسيسه وفي ما يؤمن به.. فهل يُسأل الإنسان عما يفعله الآخرون؟ عما يقوله الآخرون؟ عما يعرضه الآخرون أمامه؟

 

إن الكلمة قد نسمعها ثم نتركها في قاع الذاكرة لا نلقي لها بالاً.. كالكلمات المغناة مثلاً.. نفتح المذياع لنستمع إلى بعض الأغنيات.. التي لم ننتقيها نحن فل فُرضت علينا فرضاً  من قبل المسؤول في تلك المحطة.. ونبقيها على حالها حتى نصل إلى وجهتنا.. وما أن نصل حتى نكون قد استمعنا إلى مجموع غريب من الأفكار والعبارات والألفاظ والصور التي تشكّلت في مخيلاتنا حول تلك الكلمات والألحان.. و الأحاسيس مهما بلغت درجة سذاجتها وسوء عرضها في كلمات الأغنية ولحنها، ولكنها كلها دخلت إلينا.. وأصبحت مكوناً من مكوناتنا شئنا أم أبينا..

 

ألم يكن لنا الاختيار حينها أن نرفض التعرض إلى مثل هذا الأذى؟ ألم يمَكّنا مَن منحنا الحياة من أن نقول "لا"؟ ثم أليس عدم استخدامنا لهذا الحق في الاختيار ذنباً؟

مرّة أخرى..

 

لنقرأ أو لنشاهد نوعاً معيناً من الكتب أو الأفلام.. لتكن أفلاماً و روايات بوليسية كما يسمونها، كمية الدم المغشوش التي تتدفق في هذه القصص تزيد على كمية الدم الذي يسيل في حربٍ حقيقة! هل حقاً نحن غير مدركين لأثر هذا النوع من المشاهد على قلوبنا؟ في البداية سنحس بالقرف والاشمئزاز لكن تراكم تلك المشاهد سيجعلها بلا معنىً، بل قد نألفها ويصبح أحدنا يتلذذ بمتابعتها؟ أليس ذلك ذنباً؟ أن نحول القلب الذي مُنح لنا إلى كيان متبلّد؟ ألا نسأل عن ذلك؟

مرّة ثالثة..

 

الحب.. هذه الكلمة المستنفذة والمستهلكة استهلاكاً لم توجد كلمة في هذا الكون قد استهلكت بقدرها.. الحب.. البعض يجعله قائماً على ما تراه العين، والبعض على ما تسمعه الأذن، والبعض على ما يتلقاه من أحاسيس.. فهذا يتغنى يجمال الحبيبة أو الرفيقة .. وذلك بصوتها وعذوبته.. والأخير بحنانها ورقة مشاعرها.. وكلهم مخطئ.. وكلهم يستنفذ كلمة الحب للتعبير عن هذه الأحساسيس .. ما يهمنا في الأمر هو كيف تفقد هذه النعمة الإلهية كل جلالها وعظمتها!

 

نستطيع أن نحدد إن كنا سنترك للأشياء الصغيرة أن تحتل ذلك الحيز أم لا. كيف نحدد؟ أولاً ننظر إلى أثر هذا الأمر بعد سنوات، هل سنتذكره؟ هل سيبقى منقوشاً في حياتنا كرسم على حجر أم أن شمس اليوم التالي ستمحوه كما تمحو كحل الليلة السابقة؟

عندما يصبح كل الحب محصوراً في نوع واحد بدلاً من المحبة العظمى.. والمودة الكبرى عندها يفقد ذلك الأثر الجليل.. وإن نظرنا كيف حصل ذلك عدنا بِكُم إلى تلك الأغنيات التعيسة التي استمعنا إليها ونحن في طريقنا إلى العمل ذلك الصباح… إن عقولنا وأفئدتنا ليست ثقوباً سوداء.. إنها حاملات دائمة يتعلق بها كل ما يمر علينا في هذه الحياة ونحن مجموع كل تلك التجارب والخبرات.. والقضية أننا نصل إلى مرحلة من العمر نصبح فيها قادرين على اختيار ما نريد له أن يدخل في تكويننا العام …

 

الأمر ليس متعلقاً فقط بما نفعله.. ولكن بما لا نفعله أيضاً.. نحن عندما لم نغلق المذياع ذلك اليوم، أو لم نغير المحطة، أو لم نحاول أن نفهم مشاعرنا، كل تلك قطرات صغيرة تتجمع لتشكل المحيطات في دواخلنا. أثر الفراشة (لا ليست قصيدة محمود درويش) ولكن تلك النظرية التي تقول بأن كل فعل في هذا الكون يترتب عليه نتائج قد لا تبدو لنا ولكنها مهما كانت بسيطة وغير مرئية فهي تؤثر على مجرى حياة أحدٍ ما بعد أيام أو شهور أو سنوات. ولكننا نؤخذ بكبير الفعل وظاهر الأثر وتغيب عنّا الإبرة التي تخيط الأٌقدار غرزة بعد غرزة في باطن الكف.

قد تبدو لنا بضع كلمات وعدد قليل من الصور واللقطات ولمحات من المشاعر وردود الأفعال غير المحسوبة تافهة هامشية، ولكن الحقيقة أن الأمور التي نغفلها غالباً ما تحدد مصائرنا أو على الأٌقل تؤثر فيها بصورة لا يمكن تفاديها. قال جبران خليل جبران مرة: أنه علينا أن نتشارك في الضحك والمتع التي تأتي من الأشياء الصغيرة لأنها تعيد للقلب بهجته. ثم هناك بينجامين ديزرايلي الذي يرى بأن الأشياء الصغيرة تؤثر فقط في الأذهان الصغيرة. وأجدني أعود لأستذكر كلمات غسّان كنفاني حين كتب: " إن الأشياء الصغيرة حينما تحدث في وقتها يكون لها معنى أكبر منها، أقصد أن هنالك بداية صغيرة لكل حادث كبير". 
 

علينا أن نضع كل شيء صغير بين كفينا ونقلبه في كل الجهات ونحدد إن كان هذا الأمر حجَراً يمكننا أن نضعه أمامنا لنعبّد به الطريق إلى وجهتنا، أم أنه صخرة ستسده في وجهنا

هل صدعتكم وتداخلت عليكم الأفكار فلم تعودوا تعرفون هل أتحدث لمصلحة الأشياء الصغيرة أم أحذركم منها؟ أعتقد أن الأمر يحمل شيئاً من هذا وذاك. الأشياء الصغيرة لأنها في الواقع ضخمة وتحتل جزءاً كبيراً من حياتنا يمكن لها أن تكون مصدراً لبهجة مجتلبة، أو سبباً لحب الحياة وتقدير الجميل فيها. كأن أنظر إلى ابنتي وهي تلتقط القلم وأسعد لأنها أخيرًا بعد طول محاولة منها تمكنت من رسم مثلث أو دائرة، أليس هذا شيئاً صغيراً بتعريفنا؟ ولكنه بالنسبة لها وفي تاريخ حياتها الذي ينحصر في أربع سنوات ترى في هذا المثلث إنجازاً لا يمكنها تجاهله، أسعد لأنني أستمع إلى جبران وآخذ بنصيحته. والأشياء الصغيرة يمكن لها أن تنغص علينا أيامنا وتصبغها بألوان النّكد، كالهمزات واللمزات، والأحاديث العابرة للمحيطات، كالانتقادات المبنية على الأحكام المسبقة والتي تخلو من أي محتوىً يمكن اعتباره بناءً، ففي هذه الحالة لابد من الاستماع إلى كلمات الأخ بينجامين ونترك الأشياء الصغيرة للعقول الصغيرة.

ومن الملفت أن نجد عندنا مقولة مماثلة، فإذا أراد أحدهم أن يثنيك عن الالتفات إلى تافهة من التوافه قال لك: كبّر عقلك، أو كبّر مخك، أو تصغرش راسك. ثم هناك القاعدة الذهبية لغسان كنفاني، التي أعتقد أنها يمكن أن تنطبق في كل حال نحاول تقييم الموقف فيها، فنحن ما أن نعترف لأنفسنا بأن الأشياء الصغيرة هي مقدمات نضعها في موضعها ونستطيع أن نحدد إن كنا سنترك لها أن تحتل ذلك الحيز أم لا. كيف نحدد؟ أولاً ننظر إلى أثر هذا الأمر بعد سنوات، هل سنتذكره؟ هل سيبقى منقوشاً في حياتنا كرسم على حجر أم أن شمس اليوم التالي ستمحوه كما تمحو كحل الليلة السابقة؟ ثم ننظر إلى أنفسنا، بماذا نريد أن تمتلئ أيامنا، بأي نوع من "الفتافيت"، هل بالقصاصات الملونة التي نحتفظ بها في علبة نفتحها فتتناثر حولنا لتنقل البهجة إلى محيطنا، أم نريد أن نملأ كيس خيش مغبراً بقشور البصل التي تتطاير كلما سنحت لها الفرصة دون استئذان لتلتصق على وجوهنا وكفوفنا وبطون أقدامنا وتعيث في مجلسنا فساداً؟

 

علينا أن نضع كل شيء صغير بين كفينا ونقلبه في كل الجهات ونحدد إن كان هذا الأمر حجَراً يمكننا أن نضعه أمامنا لنعبّد به الطريق إلى وجهتنا، أم أنه صخرة ستسده في وجهنا. في البدء سيستهلكنا الاستقصاء وكثرة التمحيص ولكننا شيئاً فشيئاً سنتشرب العادة وسنجد أننا بحكم الطبع أصبحنا نختار أن لا نستمع لهذا أو ذاك، أصبحنا نختار أن لا نملأ أجوافنا بما لم نحدده نحن، أصبحنا نسير إلى حدّ كبير والغربال بين يدينا يمرّ عليه كل شيء قبل أن يصل إلينا. أمسكوا عليكم أرواحكم ولا تستهينوا بأنفسكم يا أصدقاء، فنفوسنا هي رأس مالنا الوحيد في هذا العالم المجنون.. وأكثر ما يثير الرعب أن نمتلئ بخلاف ما كنا نريد أن نعطي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.